تفسير سورة المدثر آية 1 إلى 28
أخرج الشيخان في صحيحيهما عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاورتُ بحراء شهرًا، فلما قضيتُ جِوَاري نزلتُ فاستبطنتُ الوادي فَنُوديتُ فلم أر أحدًا فرفعتُ رأسي فإذا الملكُ الذي جاءني بحراء، فرجعتُ فقلت: دثروني، فأنزل الله: ﴿يا أيُّها الْمُدَّثِّرُ قمْ فأنْذِر﴾". أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التفسير: سورة المدثر، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)﴾ هو النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى المتلفف بثيابه عند نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم.
﴿قُمْ فَأَنذِرْ (2)﴾ أي حَذّر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا.
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)﴾ أي عَظّمه، وتعظيم الله تعالى يكون بتوحيده وتنزيهه عن مشابهة المخلوقين، ويؤخذ من هذه الآية أنه أول ما يجب على العبد معرفةُ الله عزَّ وجلَّ أي معرفةُ ما يجب لله من صفات الكمال وما يستحيلُ عليه من النقائص، فإن من شبَّه الله بخلقه لم يعظمه.
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ أي طهر ثيابك من النجاسات لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة، وقيل غير ذلك.
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)﴾ أي الأوثان والأصنام ﴿فاهجر﴾ أي اترك، ولا يلزم من ذلك تلبسه صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك.
وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وشيبة، وعاصم إلا أبا بكر، ويعقوب، وابن محيصن: "والرُّجزَ" بضم الراء، والباقون بكسرها، قال الزجاج: ومعنى القراءتين واحد.
﴿وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)﴾ أي لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها، قاله ابن عباس، وهذا النهي خاص به صلى الله عليه وسلم لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجلّ الأخلاق وأباحه لأمته، وقيل: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير، فإنه مما أنعم الله عليك، وقيل غير ذلك.
﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)﴾ أي اصبر على تكاليف النبوة وعلى أداء طاعة الله وعلى أذى الكفار.
﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)﴾ أي نفخ ﴿في الناقورِ﴾ أي الصور وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل الملك الموكل بالنفخ.
﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)﴾ أي وقت النفخ في الصور ﴿يومئذٍ يومٌ عسيرٌ﴾ قال ابن عباس: شديد، رواه البخاري.
﴿عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾ أي غير سهل ولا هيّن.
﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)﴾ أي دعني وهي كلمة وعيد وتهديد ﴿ومَنْ خلقتُ وحيدًا﴾ المعنى: كِل إلى الله يا محمد أمر الذي خلقه الله وحده لا مال له ولا ولد ثم أعطاه بعد ذلك ما أعطاه وهو الوليد بن المغيرة وكان يسمى الوحيد في قومه، وإنما خُص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة وإيذاء الرسول عليه السلام. قال ابن الجوزي: "هذه نزلت في الوليد بن المغيرة والمعنى: خَلّ بيني وبينه فإني أتولى هلاكه، وقد زعم بعضهم أنها نُسخت بآية السيف وهذا باطل من وجهين:
أحدهما: أنه إذا ثبت أنه وعيد فلا وجه للنسخ.
والثاني: أن هذه السورة مكية وءاية السيف مدنية، والوليد هلك بمكة قبل نزول ءاية السيف" اهـ.
وأخرج الحاكم (المستدرك [2/506-507]) وصححه عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرءان فكأنه رقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عمّ، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه فإنك أتيت محمدًا لتتعرَّض لنا قبله، قال: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومَك أنك مُنكرٌ له وأنك كارِهٌ له، فقال: وماذا أقول ؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا بَرجَزه ولا بقصيده مني ولا بأشعار الجنّ، والله ما يُشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه مشرق أسفله وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره، فنزلت: ﴿وذرني ومن خلقت وحيدًا﴾، قال الحافظ السيوطي: "إسناده صحيح على شرط البخاري"، وأخرج ابن جرير من طرق أخرى نحوه.
﴿وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً (12)﴾ كثيرًا واسعًا متصلاً من الزروع والضروع والتجارة، وأعطيته مالا ممدودًا وهو كان له ما بين مكة والطائف من البساتين والعبيد والجواري والإبل والحُجُور وهي الأنثى من الخيل.
﴿وَبَنِينَ شُهُوداً (13)﴾ وكانوا عشرة أو أكثر أسلم منهم ثلاثة ﴿شُهُودًا﴾ أي حضورًا معه بمكة يتمتع بلقائهم لا يحتاجون إلى سفر لطلب المعاش ولا يحتاج أن يرسلهم في مصالحه لكثرة خدمه.
﴿وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)﴾ أي بسطتُ له في العيش بسطًا، قال ابن عباس: وسعتُ له ما بين اليمن والشام.
﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)﴾ أي أن الوليد بن المغيرة يطمع أن أزيده من المال والولد على ما أعطيته.
﴿كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً (16)﴾ أي ليس يكون كذلك مع كفره بالنعم ﴿إنَّهُ﴾ يعني الوليد ﴿كانَ لآياتِنا عنيدًا﴾ أي معاندًا للنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به.
﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)﴾ أي سَأُكلفه مشقةً من العذاب لا راحة له منها.
﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)﴾ يعني الوليد ﴿فكَّرَ﴾ في ما تخيل طعنًا في القرءان ﴿وقدَّرَ﴾ في نفسه ما يقول في محمد والقرءان.
﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)﴾ أي لُعن الوليد بن المغيرة ﴿كيفَ قدَّرَ﴾ ما لا يصح تقديره وما لا يسوغ أن يقدره عاقل.
﴿ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)﴾ كرر الدعاء عليه للمبالغة وتقبيح ما فكر به.
﴿ثُمَّ نَظَرَ (21)﴾ أي فكر ثانيًا بأي شيء يدفع القرءان ويرده.
﴿ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)﴾ أي قطب بين عينيه في وجوه المؤمنين ﴿وبَسرَ﴾ أي كلح وجهه وتغير لونه.
﴿ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)﴾ عن الإيمان ﴿واستكبرَ﴾ أي تكبر عن قبول الحق واتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)﴾ أي قال ما هذا الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم ﴿إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ أي يأثره عن غيره، أي زعم أن هذا سحر يرويه محمد وينقله عن غيره من السحرة قبله، والسحر: الخديعة.
﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)﴾ وزعم هذا المعاند أن هذا القرءان ما هو إلا كلام البشر ليس بكلام الله عزَّ وجلَّ.
﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)﴾ أي سأدخله ﴿سقرَ﴾ أي جهنم، وسقر اسم من أسماء جهنم.
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27)﴾ هذه مبالغة في وصفها، أي وما أعلمك أي شيء هي ؟ وهي كلمة تعظيم لهولها وشدتها.
ثم فسَّر حالها فقال:
﴿لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28)﴾ أي لا تبقي على من ألقي فيها ﴿ولا تذرُ﴾ غاية من العذاب إلا أوصلته إليه. فالكافر لا ينقطع عنه العذاب في النار وهي مع شدتها لا يموت فيها فيرتاح من العذاب ولا يحيا حياة هنيئة بل عذابه أبدي سرمدي، هذا ما عليه أهل الحق قاطبة بخلاف ما زعمه ابن تيمية وجماعته من أن الكفار ينقطع عنهم العذاب وتفنى النار فإن هذا تكذيب للقرءان.