تفسير سورة النبإ آية 21 إلى 40

﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21)﴾ وَجَهَنَّمُ تَرْصُدُ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فَيَدْخُلُهَا الْكَافِرُ وَيُحْبَسُ فِيهَا أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ.

﴿لِّلطَّاغِينَ مَآبًا (22)﴾ أَيْ أَنَّ جَهَنَّمَ مَرْجِعُ وَمُنْقَلَبُ مَنْ طَغَى فِي دِينِهِ بِالْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.

﴿لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)﴾ وَقَرَأَ حَمْزَةُ «لَبِثِينَ» وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ أَيْ أَنَّ الْكُفَّارَ سَيَمْكُثُونَ فِي النَّارِ مَا دَامَتِ الأَحْقَابُ، وَهِيَ لا تَنْقَطِعُ كُلَّمَا مَضَى حُقْبٌ جَاءَ حُقْبٌ وَهَكَذَا إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ، وَالْحُقْبُ ثَمَانُونَ سَنَةً، قَالَ الإِمَامُ الْقُشَيْرِيُّ: أَيْ دُهُورًا، وَالْمَعْنَى مُؤَبَّدِينَ. وَلَيْسَ فِي الآيَةِ وَلا فِي غَيْرِهَا مُتَعَلَّقٌ لِمَنْ يَقُولُ بِفَنَاءِ النَّارِ كَجَهْمِ بنِ صَفْوَانَ وَهُوَ رَأْسُ الْجَهْمِيَّةِ. وَقَدْ عَدَّ عُلَمَاءُ الإِسْلامِ الْقَوْلَ بِفَنَاءِ جَهَنَّمَ مِنَ الضَّلالِ الْمُبِينِ الْمُخْرِجِ مِنَ الإِسْلامِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ كَمَا قَالَ الإِمَامُ الْحَافِظُ الْمُجْتَهِدُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِسَالَتِهِ الَّتِي سَمَّاهَا «الاعْتِبَارُ بِبَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ» رَدَّ فِيهَا عَلَى ابْنِ تَيْمِيَةَ الَّذِي مِنْ جُمْلَةِ ضَلالاتِهِ قَوْلُهُ بِأَزَلِيَّةِ نَوْعِ الْعَالَمِ، وَذَكَرَ عَقِيدَتَهُ هَذِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ كُتُبِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ كُفْرٌ إِجْمَاعًا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَغَيْرُهُمَا كَالْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ الْمَالِكِيِّ، فَلا يَغُرَنَّكَ زُخْرُفُهُ.

 ﴿لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا (24)﴾ أَيْ أَنَّ الْكُفَّارَ فِي جَهَنَّمَ لا يَذُوقُونَ الشَّرَابَ الْبَارِدَ الْمُسْتَلَذَّ.

﴿إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)﴾ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلا شَرَابًا﴾ وَالْحَمِيمُ: هُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ الَّذِي يُحْرِقُ، وَالْغَسَّاقُ: هُوَ الْقَيْحُ الْغَلِيظُ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ "غَسَاقًا" بِالتَّخْفِيفِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالتَّشْدِيدِ.

﴿جَزَاءً وِفَاقًا (26)﴾ فَوَافَقَ هَذَا الْعَذَابُ الشَّدِيدُ سُوءَ أَعْمَالِهِمْ وَكُفْرَهُمْ.

 ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا (27)﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: لا يَخَافُونَهُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فَهُمْ كَانُوا لا يُؤْمِنُونَ بِيَوْمِ الْحِسَابِ فَيَخَافُونَ مِنَ الْعِقَابِ.

 ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)﴾ وَكَانُوا مُبَالِغِينَ فِي تَكْذِيبِ الْقُرْءَانِ الْكَريِمِ.

﴿وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)﴾ أَيْ أَنَّ كُلَّ شَىْءٍ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مِنَ الأَعْمَالِ مَكْتَوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِيُجَازِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَكْذِيبُهُمْ لِلْقُرْءَانِ، فَالْمَلائِكَةُ يُحْصُونَ زَلاتِ الْعَاصِينَ وَيَكْتُبُونَهَا فِي صَحَائِفِهِمْ.

﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)﴾ فَزِيَادَةُ الْعَذَابِ لَهُمْ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ هُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ كُفْرِهِمْ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وَتَكْذِيبِهِمْ بِالآيَاتِ. وَفِي هَذَا الْخِطَابِ تَوْبِيخٌ لَهُمْ وَشِدَّةُ غَضَبٍ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ هَذَهِ الآيَةَ هِيَ أَشَدُّ ءَايَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ.

وَاعْلَمُوا أَيُّهَا الأَحِبَّةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِذَا سَمِعَ الشَّخْصُ عَنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ أَوْ عَنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنْ يَقُولَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا.

﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)﴾ فَالتَّقِيُّ وَهُوَ مَنْ أَدَّى الْوَاجِبَاتِ وَاجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ يَفُوزُ وَيَنْجُو وَيَظْفَرُ حَيْثُ يُزَحْزَحُ عَنِ النَّارِ وَيُدْخَلُ الْجَنَّةَ.

 ﴿حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)﴾ وَيَكُونُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ الْبَسَاتِينُ الَّتِي فِيهَا أَنْوَاعُ الأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ.

﴿وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)﴾ أَيْ جَوَارِيَ مُتَسَاوِيَاتٍ فِي السِّنِّ.

﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)﴾ أَيْ كَأْسًا مَمْلُوءَةً بِالشَّرَابِ الصَّافِي.

﴿لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا (35)﴾ فَلا يَسْمَعُونَ فِي الْجَنَّةِ بَاطِلا مِنَ الْقَوْلِ وَلا كَذِبًا، وَلا يُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقِرَاءَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كِذَابًا» بِالتَّخْفِيفِ، وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يُخَفِّفُ هَذِهِ وَيُشَدِّدُ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ.

 ﴿جَزَاءً مِّنْ رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)﴾ وَيَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ إِكْرَامًا مِنْهُ الْعَطَاءَ وَالنَّعِيمَ الْكَثِيرَ.

﴿رَّبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمٰنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)﴾ فَاللَّهُ مَالِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَذَلِكَ مَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ ٱلرَّحْمٰنُ، فَلا يَمْلِكُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الاعْتِرَاضَ عَلَى اللَّهِ فِي ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ لِأَنَّهُمْ مَمْلُوكُونَ لَهُ عَلَى الإِطْلاقِ فَلا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ اعْتِرَاضًا وَذَلِكَ لا يُنَافِي الشَّفَاعَةَ بِإِذْنِهِ تَعَالَى. قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾ أَيْ لا يُكَلِّمُونَهُ إِلا أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمٰنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)﴾ أَيْ يَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرُّوحُ وَهُوَ جِبْرِيلُ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ قَدْرًا وَشَرَفًا مُصْطَفِّينَ فَلا يَتَكَلَّمُونَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ إِجْلالًا لِرَبِّهِمْ وَخُضُوعًا لَهُ، فَلا يَشْفَعُ إِلا مَنْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ «وَقَالَ صَوَابًا» أَيْ حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمِلَ بِهِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

فَعِنْدَ أَهْلِ الْغَفْلَةِ هُوَ بَعِيدٌ وَلَكِنَّهُ فِي التَّحْقِيقِ قَرِيبٌ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ بِلا شَكٍّ فَيَرَى الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ مَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الْحَيَوَانَ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ ثُمَّ يُقَالُ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ: كُونِي تُرَابًا، فَيَعُودُ جَمِيعُهَا تُرَابًا فَيَتَمَنَّى الْكَافِرُ لِنَفْسِهِ مِثْلَهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)﴾ أَيْ بُعِثَتْ لِلْقِصَاصِ، وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ - وَهِيَ الَّتِي لا قَرْنَ لَهَا - مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ »، قَالَ مُجَاهِدٌ: يُبْعَثُ الْحَيَوَانُ فَيُقَادُ لِلْمَنْقُورَةِ مِنَ النَّاقِرَةِ وَلِلْمَنْطُوحَةِ مِنَ النَّاطِحَةِ.

وَفِي الآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَهَائِمَ لَهَا أَرْوَاحٌ وَنُمُوٌّ، أَمَّا النَّبَاتُ فَفِيهِ نُمُوٌّ فَقَطْ وَلَيْسَ فِيهِ رُوحٌ، فَالزَّرْعُ لا يَتَأَلَّمُ حِينَ الْحَصَادِ كَالشَّاةِ الَّتِي تُذْبَحُ فَإِنَّ الشَّاةَ تَتَأَلَّمُ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْبَهَائِمَ لا أَرْوَاحَ لَهَا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ وَالْحَدِيثَ.

﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)﴾ أَيْ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَابِتٌ لَيْسَ فِيهِ تَخَلُّفٌ وَمَنْ أَرَادَ السَّلامَةَ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْلُكُ سَبِيلَ الْخَيْرِ، وَفِي الآيَةِ مَعْنَى الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ لا التَّخْيِير.

﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾ وَهُوَ عَذَابُ الآخِرَةِ ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ أَيْ يَرَى عَمَلَهُ مُثْبَتًا فِي صَحِيفَتِهِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)﴾ تَأْكِيدٌ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَم.