تفسير سورة التين
﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: «قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ التِّينُ وَالزَّيْتُونُ الَّذِي يَأْكُلُ النَّاسُ». فَاللَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ كَمَا أَقْسَمَ بِالضُّحَى وَمَكَّةَ وَالشَّمْسِ وَالنَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي فَيهَا نَفْعٌ، لأَنَّهُ تَعَالَى يُقْسِمُ بِنَفْسِهِ وَبِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ مِمَّا لَهُ شَأْنٌ، وَنَهَانَا أَنْ نُقْسِمَ بِغَيْرِهِ تَعَالَى.
﴿وَطُورِ سِينِينَ (2)﴾ قَالَ فِي الْفَتْحِ: قَالَ مُجَاهِدٌ ﴿وَطُورِ﴾: الْجَبَلُ، وَ﴿سِينِينَ﴾ الْمُبَارَكُ وَهُوَ سِينَاءُ وَيُقَالُ سَيْنَاءُ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ طُورُ سِينَاءَ وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ فَسَمِعَ سَيِّدُنَا مُوسَى كَلامَ اللَّهِ الذَّاتِيَّ الأَزَلِيَّ الَّذِي لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَسَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَطُورِ سَيْنَاءَ مَمْدُودَةً مَهْمُوزَةً مَفْتُوحَةَ السِّينِ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَطُورِ سِينَاءَ بِكَسْرِ السِّينِ.
﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ (3)﴾ أَيْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ وَهُوَ بَلَدٌ ءَامِنٌ مَنْ فِيهِ وَمَنْ دَخَلَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ طَيْرٍ وَحَيَوَانٍ.
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)﴾ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ وَالْمُرَادُ هُنَا عُمُومُ النَّاسِ، وَمَعْنَى فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أَيْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ. وَفِي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَعْضُ مِنَ النَّظَريَّةِ الْمُسَمَّاةِ الارْتِقَاءَ وَالنُّشُوءَ. فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ أَصْلَ الإِنْسَانِ قِرْدٌ.
﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)﴾ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَيِ الإِنْسَانَ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ أَيْ إِلَى النَّارِ، وَقِيلَ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَهُوَ الْهَرَمُ بَعْدَ الشَّبَابِ وَالضَّعْفُ بَعْدَ الْقُوَّةِ.
﴿إلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (6)﴾ أَيْ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا يُرَدُّونَ إِلَى النَّارِ.
﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَيْرُ مَنْقُوصٍ، وَقِيلَ: فَلَهُمْ ثَوَابٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَصَبْرِهِمْ عَلَى الابْتِلاءِ بِالْشَيْخُوخَةِ وَالْهَرَمِ.
﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)﴾ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ خِطَابٌ لِلْكَافِرِ عَلَى وَجْهِ التَّوْبِيخِ وَإِلْزَامِ الْحُجَّةِ، أَيْ إِذَا عَرَفْتَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَكَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَأَنَّهُ يَرُدُّكَ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَيَنْقُلُكَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ فَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى أَنْ تُكَذِّبَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَقَدْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)﴾ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ أَتْقَنَ الْحَاكِمِينَ صُنْعًا فِي كُلِّ مَا خَلَقَ، وَقِيلَ: أَقْضَى الْقَاضِينَ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَانْتَهَى إِلَى ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ فَلْيَقُلْ بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ».