خطبة الجمعة عن معجزات النبي محمد
أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَقَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَاتَمَ الأَنْبِيَاءِ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا فَأَدَّى وَبَلَّغَ وَبَشَّرَ وَأَنْذَرَ، وَأُوذِيَ وَصَبَرَ، وَعَلَّمَ وَأَمَرَ، فِي حَرٍّ وَبَرْدٍ وَصَيْفٍ وَشِتَاءٍ وَلَيْلٍ وَنَهَارٍ مِنْ غَيْرِ كَلَلٍ أَوْ مَلَلٍ، حَتَّى انْقَادَتْ لَهُ نُفُوسٌ كَانَتْ جَامِحَةً، وَلانَتْ لِوَعْظِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلُوبٌ كَانَتْ جَلامِيدَ قَاسِيَةً، وَأَشْرَقَتْ مِنْ نُورِ هَدْيِهِ أَفْئِدَةٌ كَانَتْ مُظْلِمَةً، وَأَيَّدَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ لِتَكُونَ دَلِيلاً عَلَى صِدْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمُعْجِزَاتُ الَّتِي حَصَلَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، قِيلَ إِنَّ عَدَدَهَا بَيْنَ أَلْفٍ وَثَلاثَةِ ءَالافٍ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ « مَا أَعْطَى اللَّهُ نَبِيًّا مُعْجِزَةً إِلاَّ وَأَعْطَى مُحَمَّدًا مِثْلَهَا أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا ». فَقِيلَ لِلشَّافِعِيِّ أَعْطَى اللَّهُ عِيسَى إِحْيَاءَ الْمَوْتَى، فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ « أُعْطِيَ مُحَمَّدٌ حَنِينَ الْجِذْعِ حَتَّى سُمِعَ صَوْتُهُ فَهَذَا أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ ».
فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا « أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَلا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ فَإِنَّ لِي غُلامًا نَجَّارًا قَالَ: إِنْ شِئْتِ، قَالَ: فَعَمِلَتْ لَهُ الْمِنْبَرَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قَعَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ الَّذِي صُنِعَ فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ تَنْشَقُّ فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ » وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّ الْحَسَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَكَى ثُمَّ قَالَ « يَا عِبَادَ اللَّهِ الْخَشَبَةُ تَحِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَوْقًا إِلَيْهِ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ أَنْ تَشْتَاقُوا إِلَى لِقَائِهِ ».
وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِقْبَالُ الشَّجَرِ وَشَهَادَتُهُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ فَأَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ إِلَى أَهْلِي قَالَ هَلْ لَكَ إِلَى خَيْرٍ ؟ قَالَ مَا هُوَ ؟ قَالَ تَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ؟ قَالَ هَلْ مِنْ شَاهِدٍ عَلَى مَا تَقُولُ ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الشَّجَرَةُ فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ فِي شَاطِىءِ الْوَادِي فَأَقْبَلَتْ تَخُدُّ الأَرْضَ خَدًّا حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَاسْتَشْهَدَهَا ثَلاثًا فَشَهِدَتْ أَنَّهُ كَمَا قَالَ.
وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْبِيحُ الطَّعَامِ فِي يَدِهِ الشَّرِيفَةِ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ « كُنَّا نَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّعَامَ وَنَحْنُ نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ ».
وَهَذِهِ الْمُعْجِزَاتُ الثَّلاثُ إِخْوَةَ الإِيْمَانِ أَعْجَبُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى لأِنَّ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى يَتَضَمَّنُ رُجُوعَ هَؤُلاءِ الأَشْخَاصِ إِلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا، أَمَّا الْخَشَبُ وَالشَّجَرُ وَنَحْوُهُمَا فَلَمْ تَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ تَتَكَلَّمَ فَبُكَاءُ الْجِذْعِ وَشَهَادَةُ الشَّجَرِ وَتَسْبِيحُ الطَّعَامِ أَعْجَبُ.
وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّهَا الأَحِبَّةُ تَفَجُّرُ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ بِالْمُشَاهَدَةِ فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ فِي مَشَاهِدَ عَظِيمَةٍ حَضَرَهَا الْجَمْعُ الْكَبِيرُ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ « عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنَاءٍ وَهُوَ بِالزَّوْرَاءِ - وَهُوَ مَوْضِعٌ فِي الْمَدِينَةِ - فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ » قَالَ قَتَادَةُ قُلْتُ لأِنَسٍ: كَمْ كُنْتُمْ قَالَ « ثَلاثَ مِائَةٍ أَوْ زُهَاءَ ثَلاثِ مِائَةٍ ». وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَيْضًا « عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ يَتَوَضَّأُ مِنْهَا فَجَهَشَ النَّاسُ فَقَالَ مَا لَكُمْ ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَوَضَّأُ بِهِ وَلا مَا نَشْرَبُهُ إِلاَّ مَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ، فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا، فَقِيلَ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً ».
وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدُّ عَيْنِ قَتَادَةَ بَعْدَ انْقِلاعِهَا فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلائِلِ عَنْ قَتَادَةَ بنِ النُّعْمَانِ أَنَّهُ أُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ بَدْرٍ فَسَالَتْ حَدَقَتُهُ عَلَى وَجْنَتِهِ فَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوهَا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: لا، فَدَعَا بِهِ فَغَمَزَ حَدَقَتَهُ بِرَاحَتِهِ، فَكَانَ لا يَدْرِي أَيَّ عَيْنَيْهِ أُصِيبَتْ.
وَفِي هَاتَيْنِ الْمُعْجِزَتَيْنِ مُعْجِزَةِ نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَمُعْجِزَةِ رَدِّ عَيْنِ قَتَادَةَ بَعْدَمَا قُلِعَتْ قَالَ بَعْضُ الْمَادِحِينَ شِعْرًا مِنَ الْبَسِيطِ
إِنْ كَانَ مُوسَى سَقَى الأَسْبَاطَ مِنْ حَجَرٍ فَإِنَّ فِي الْكَفِّ مَعْنًى لَيْسَ فِي الْحَجَرِ
إِنْ كَانَ عِيسَى بَرَا الأَعْمَى بِدَعْوَتِهِ فَكَمْ بِرَاحَتِهِ قَدْ رَدَّ مِنْ بَصَرِ
وَنُبُوعُ الْمَاءِ مِنْ عَظْمِهِ وَعَصَبِهِ وَلَحْمِهِ وَدَمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ تَفَجُّرِ الْمِيَاهِ مِنَ الْحَجَرِ الَّذِي ضَرَبَهُ مُوسَى لأِنَّ خُرُوجَ الْمَاءِ مِنَ الْحِجَارَةِ مَعْهُودٌ بِخِلافِهِ مِنْ بَيْنِ اللَّحْمِ وَالدَّمِ.
وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ الْبَاهِرَاتِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ فِلْقَتَيْنِ فِلْقَةٍ وَرَاءَ جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ وَفِلْقَةٍ دُونَهُ وَقَدْ أَخْبَرَ الْقُرْءَانُ بِذَلِكَ وَوَرَدَ بِهِ الأَحَادِيثُ فَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا ءَايَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنْبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ﴾ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ « أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ ءَايَةً فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ » وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ « فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ مَرَّتَيْنِ » وَفِي دَلائِلِ النُّبُوَّةِ لأِبِي نُعَيْمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ « انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا سِحْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ – يُرِيدُونَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ – قَالَ: فَقَالَوا: انْظُرُوا مَا يَأْتِيكُمْ بِهِ السّفَارُ - أَيِ الْقَوَافِلُ الْعَائِدَةُ إِلَى مَكَّةَ - فَإِنَّ مُحَمَّدًا لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ قَالَ: فَجَاءَ السّفَارُ فَقَالُوا كَذَلِكَ ».
إِخْوَةَ الإِيْمَانِ: إِنَّ أَعْظَمَ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْجِزَةُ الْقُرْءَانِ الْكَرِيْمِ الَّذِي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، وَقَدْ وَصَفَهُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ فَالْقُرْءَانُ الْكَرِيْمُ أُنْـزِلَ عَلَى وَصْفٍ مُبَايِنٍ لأِوْصَافِ كَلامِ الْبَشَرِ نَظْمُهُ لَيْسَ نَظْمَ الرَّسَائِلِ وَلا نَظْمَ الْـخـُطَبِ وَلا نَظْمَ الأَشْعَارِ وَلا هُوَ كَأَسْجَاعِ الْكُهَّانِ مَعَ مَا فِيهِ مِنِ الْتِئَامِ الْكَلِمَاتِ وَالإِيْجَازِ فِي مَقَامِ الإِيْجَازِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْبَلاغَةِ وَحُسْنِ النَّظْمِ وَغَرَابَةِ الأُسْلُوبِ مَا حَيَّرَ عُقُولَ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ حَتَّى أَقَرُّوا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَوْلِ الْبَشَرِ.
فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلائِلِ النُّبُوَّةِ أَنَّ الْوَلِيدَ بنَ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ مِنْ رُءُوسِ الْكُفْرِ جَاءَ إِلَى ِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ اقْرَأْ عَلَيَّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ قَالَ: أَعِدْ، فَأَعَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطُلاوَةً وَإِنَّ أَعْلاهُ لَمُثْمِرٌ وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ وَمَا يَقُولُ هَذَا بَشَرٌ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: يَا عَمُّ كَأَنَّكَ تَتَقَرَّبُ مِنْ مُحَمَّدٍ تُرِيدُ مِنْهُ الْمَالَ فَإِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالاً لِيُعْطُوكَهُ قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالاً قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلاً يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ ؟ فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالأَشْعَارِ مِنِّي وَلا أَعْلَمُ بِرَجَزِهِ وَلا بِقَصِيدَتِهِ مِنِّي وَلا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ. وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطُلاوَةً وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ وَإِنَّهُ لَيَعْلُوا وَمَا يُعْلَى وَأَنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ. لكنّه بقي على الكفر وَقَالَ: إِنَّهُ سَاحِرٌ.
وَقَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنَّ أَحَدًا لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَحَدَّى بِهِ قَوْمَهُ عَلَى الإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ بَلْ بِمِثْلِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ ﴿ قُلْ لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يُعَارِضَهُ بِالْمِثْلِ أَوْ حَتَّى بِمِثْلِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْ سُوَرِ الْقُرْءَانِ مَعَ تَمَيُّزِهِمُ الْكَبِيرِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلاغَةِ وَمَعَ حِرْصِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مُعَارَضَةِ الرَّسُولِ وَتَكْذِيبِهِ. وَعَجْزُهُمْ عَنْ ذَلِكَ ثَابِتٌ مُتَوَاتِرٌ وَلِذَلِكَ عَدَلُوا إِلَى الْقِتَالِ وَالْمُخَاطَرَةِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلادِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ لَمَا لَجَأُوا إِلَى الْقِتَالِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ السَّلامَةِ لأِنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَهَذَا التَّحَدِّي بَاقٍ إِلَى الْيَوْمِ.