تفسير سورة المُلك آية 7 إلى 14

إِذَآ أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)

﴿إِذَا أُلْقُوا فِيهَا﴾ يَعْنِي إِذَا أُلْقِيَ الْكُفَّارُ فِي جَهَنَّمَ وَطُرِحُوا فِيهَا كَمَا يُطْرَحُ الْحَطَبُ فِي النَّارِ الْعَظِيمَةِ ﴿سَمِعُوا لَهَا﴾ يَعْنِي لِجَهَنَّمَ ﴿شَهِيقًا﴾ وَالشَّهِيقُ: الصَّوْتُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْجَوْفِ بِشِدَّةٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ سَمِعُوا صَوْتًا مُنْكَرًا كَصَوْتِ الْحِمَارِ، تُصَوِّتُ مِثْلَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ تَوَقُّدِهَا وَغَلَيَانِهَا ﴿وَهِيَ تَفُورُ﴾ أَيْ تَغْلِي بِهِمْ كَغَلْيِّ الْمِرْجَلِ. [والْمِرجَلُ قِدْرٌ مِنْ نُحَاسٍ].

تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَآ أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)

﴿تَكَادُ﴾ جَهَنَّمُ ﴿تَمَيَّزُ﴾ يَعْنِي تَتَقَطَّعُ وَتَتَفَرَّقُ، وَقَرَأَ الْبِزِّيُّ "تَمَيَّزُ" بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَصْلاً، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ ﴿مِنَ الْغَيْظِ﴾ عَلَى الْكُفَّارِ، فَجُعِلَتْ كَالْمُغْتَاظَةِ عَلَيْهِم اسْتِعَارَةً لِشِدَّةِ غَلَيَانِهَا بِهِمْ ﴿كُلَّمآ أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ﴾ أَيْ فَرِيقٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ ﴿سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ﴾ وَهُمْ مَالِكٌ وَأَعْوَانُهُ، وَسُؤَالُهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ وَهُوَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ عَذَابًا إِلَى عَذَابِهِمْ: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾، أَيْ رَسُولٌ فِي الدُّنْيَا يُنْذِرُكُمْ هَذَا الْعَذَابَ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ.

قَالُوا بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ (9)

﴿قَالُوا بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ﴾ أَنْذَرَنَا وَخَوَّفَنَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [سُورَةَ الزُّمَرِ]، فَاعْتَرَفَ الْكُفَّارُ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسَلاً يُنْذِرُونَهُمْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَاعْتَرَفُوا أَيْضًا بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوهُمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ: ﴿فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا﴾ أَيْ قَالُوا لِلرَّسُولِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ ﴿مَا نَزَّلَ اللَّهُ﴾ عَلَيْكَ ﴿مِنْ شَىْءٍ﴾ مِمَّا تَقُولُ مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ﴾ وَفِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِهِ "الْبَحْرُ الْمُحِيطُ" مَا نَصُّهُ : "الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ﴾ مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ لِلرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا نُذُرًا إِلَيْهِمْ، أَنْكَرُوا أَوَّلاً أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ شَيْئًا وَاسْتَجْهَلُوا ثَانِيًا مَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ وَأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ فِي حَيْرَةٍ عَظِيمَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الْخَزَنَةِ لِلْكُفَّارِ إِخْبَارًا لَهُمْ وَتَقْرِيعًا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَأَرَادُوا بِالضَّلاَلِ الْهَلاَكَ الَّذِي هُمْ فِيهِ، أَوْ سَمَّوْا عِقَابَ الضَّلاَلِ ضَلاَلاً لَمَّا كَانَ نَاشِئًا عَنِ الضَّلاَلِ" ا.هـ.

وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحٰبِ السَّعِيرِ (10)

﴿وَقَالُوا﴾ أَيْ وَقَالَ الْكُفَّارُ أَيْضًا وَهُمْ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ﴿لَوْ كُنَّا﴾ فِي الدُّنْيَا ﴿نَسْمَعُ﴾ مِنَ النُّذُرِ أَيِ الرُّسُلِ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْحَقِّ سَمَاعَ طَالِبٍ لِلْحَقِّ ﴿أَوْ نَعْقِلُ﴾ عَقْلَ مُتَأَمِّلٍ وَمُفَكِّرٍ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ، ﴿مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ يَعْنِي مَا كُنَّا مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَمْ نَسْتَوْجِبِ الْخُلُودَ فِيهَا.

فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحٰبِ السَّعِيرِ (11)

﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ﴾ أَيْ بِكُفْرِهِمْ فِي تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وَهَذَا الاِعْتِرَافُ لاَ يَنْفَعُهُمْ وَلاَ يُخَلِّصُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، ﴿فَسُحْقًا﴾ أَيْ فَبُعْدًا، ﴿لأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ إِلاَّ النَّهْرَوَانِيَّ، وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّ الْحَاءِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ أَتْبَعَهُ بِوَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم﴾ أَيْ يَخَافُونَهُ ﴿بِالْغَيْبِ﴾ أَيِ الَّذِي أُخْبَرُوا بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَأَحْوَالِهِ، أَوْ يَخَافُونَهُ وَهُمْ فِي غَيْبَتِهِمْ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ فِي خَلَوَاتِهِمْ فَآمَنُوا بِهِ وَأَطَاعُوهُ سِرًّا كَمَا أَطَاعُوهُ عَلاَنِيَّةً ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ﴾ أَيْ عَفْوٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ ذُنُوبِهِمْ ﴿وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ وَهُوَ الْجَنَّةُ.

وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)

﴿وَأَسِرُّوا﴾ أَيْ أَخْفُوا أَيُّهَا النَّاسُ ﴿قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ﴾ أَيْ أَعْلِنُوهُ وَأَظْهِرُوهُ، وَاللَّفْظُ لَفْظُ الأَمْرِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخَبَرُ يَعْنِي إِنْ أَخْفَيْتُمْ كَلاَمَكُمْ أَوْ جَهَرْتُمْ بِهِ فَـ﴿إِنَّهُ﴾ تَعَالَى ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ يَعْنِي بِمَا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَكَيْفَ بِمَا نَطَقْتُمْ بِهِ، وَالآيَةُ فِيهَا بَيَانُ اسْتِوَاءِ الأَمْرَيْنِ أَيِ الإِسْرَارِ وَالْجَهْرِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَنَالُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرُهُ جِبْرِيلُ بِمَا قَالُوا، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ إِلـٰهُ مُحَمَّدٍ" اهـ.

أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)

﴿أَلاَ يَعْلَمُ﴾ الْخَالِقُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿مَنْ خَلَقَ﴾ وَهُوَ الَّذِي أَحَاطَ بِخَفِيَّاتِ الأُمُورِ وَجَلِيَّاتِهَا، وَعَلِمَ مَا ظَهَرَ مِنْ خَلْقِهِ وَمَا بَطَنَ، أَوْ أَلاَ يَعْلَمُ الْخَالِقُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الإِنْكَارُ أَيْ كَيْفَ لاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ الأَشْيَاءَ وَأَوْجَدَهَا مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ﴾ الْمُحْسِنُ إِلَى عِبَادِهِ فِي خَفَاءٍ وَسَتْرٍ وَمِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُونَ، ﴿الْخَبِيرُ﴾ أَيِ الْمُطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَةِ الأَشْيَاءِ فَلاَ تَخْفَى عَلَى اللَّهِ خَافِيَةٌ.