تفسير سورة المُلك آية 15 إلى 21
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً﴾ أَيِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ الأَرْضَ سَهْلَةً تَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا وَيُمْكِنُ الْمَشْيُ فِيهَا وَالْحَفْرُ لِلآبَارِ وَشَقُّ الْعُيُونِ وَالأَنْهَارِ فِيهَا وَبِنَاءُ الأَبْنِيَةِ وَزَرْعُ الْحُبُوبِ وَغَرْسُ الأَشْجَارِ فِيهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ صَخْرَةً صُلْبَةً لَمَا تَيَسَّرَ شَىْءٌ مِنْهَا، ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ أَيْ طُرُقَاتِهَا، وَقِيلَ جِبَالِهَا، وَقِيلَ جَوَانِبِهَا، قَالَ الْبُخَارِيُّ: "مَنَاكِبُهَا: جَوَانِبُهَا"، وَالْمَعْنَى: هُوَ الَّذِي سَهَّلَ لَكُمُ السُّلُوكَ فِي جِبَالِهَا وَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّذْلِيلِ، ﴿وَكُلُوا مِنْ رِّزْقِهِ﴾ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكُمْ ﴿وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ أَيِ الْمَرْجِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. ثُمَّ خَوَّفَ كُفَّارَ مَكَّةَ فَقَالَ:
ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَآءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)
﴿ءَأَمِنْتُمْ﴾ أَيْ أَتَأْمَنُونَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: ﴿وَإِلَيْهِ النُّشُورُ وَأَمَنْتُمْ﴾، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو: ﴿النُّشُورُ ءَامِنْتُمْ﴾ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: ﴿ءَأَمِنْتُمْ﴾ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ.
﴿مَّنْ فِي السَّمَآءِ﴾ أَيِ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِالْعَذَابِ وَهُوَ جِبْرِيلُ ﴿أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ﴾ وَهُوَ ذَهَابُهَا سُفْلاً كَمَا خُسِفَتْ بِقَارُونَ، وَكَمَا خَسَفَ جِبْرِيلُ بِمُدُنِ قَوْمِ لُوطٍ، ﴿فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ تَتَحَرَّكُ بِأَهْلِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحَرِّكُ الأَرْضَ بِقُدْرَتِهِ عَنْدَ الْخَسْفِ بِهِمْ حَتَّى يَقْلِبَهُمْ إِلَى أَسْفَلَ وَتَعْلُوَ الأَرْضُ عَلَيْهِمْ وَتَمُورَ فَوْقَهُمْ أَيْ تَذْهَبَ وَتَجِيءَ.
فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ: ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عِنْدَ بَيَانِ مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يُوصَفُ بِالْمَكَانِ وَلاَ يَتَحَيَّزُ فِي جِهَةٍ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الأَجْسَامِ وَاللَّهُ لَيْسَ جِسْمًا كَبِيرًا وَلاَ جِسْمًا صَغِيرًا فَلاَ يَسْكُنُ السَّمَاءَ وَلاَ يَسْكُنُ الْعَرْشَ وَلاَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، فَرَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَوْجُودٌ بِلاَ جِهَةٍ وَلاَ مَكَانٍ، وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي أَمَالِيِّهِ فِي تَفْسِيرِ حَدِيثِ: "ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ": "وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ: "أَهْلُ السَّمَاءِ" عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ "مَنْ فِي السَّمَاءِ": الْمَلاَئِكَةُ" اهـ. [وفي رواية: ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ]
أَمْ أَمِنتُم مَّنْ فِي السَّمَآءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)
﴿أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَآء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ أَيْ ريِحًا ذَاتَ حِجَارَةٍ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا أَرْسَلَهَا عَلَى قَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْفِيلِ، ﴿فَسَتَعْلَمُونَ﴾ أَيُّهَا الْكَفَرَةُ ﴿كَيْفَ نَذِيرِ﴾ أَيْ كَيْفَ عَاقِبَةُ نَذِيرِي لَكُمْ إِذْ كَذَّبْتُمْ بِهِ وَرَدَدْتُمُوهُ عَلَى رَسُولِي، وَالْمَعْنَى: وَإِذَا عَايَنْتُمُ الْعَذَابَ فَسَتَعْلَمُونَ أَنَّ إِنْذَارِي بِالْعَذَابِ حَقٌّ حِينَ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْعِلْمُ.
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)
﴿ولقَدْ كَذَّبَ﴾ أي المشركون ﴿الذينَ مِن قبلِهِم﴾ أي من قبل كفار مكة وهم الأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مَدْيَن وقوم فرعون، فإنهم كذبوا ما جاءت به الرسل ﴿فكيفَ كانَ نكيرِ﴾ أي إنكاري عليهم أليس وجدوا العذاب حقًا ؟ بلى.
ولمّا حذرهم ما يمكن إحلاله بهم من الخسف وإرسال الحاصب نبّههم على الاعتبار بالطير وما أحكم من خلقها فقال عز وجل: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمٰنُ إِنَّهُو بِكُلِّ شَىْءٍ بَصِيرٌ (19)
﴿أوَلَمْ يرَوا﴾ المشركون ﴿إلى الطيرِ﴾ جمع طائر تطير ﴿فوقهم﴾ في الهواء ﴿صافَّاتٍ﴾ أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها ﴿ويَقْبِضنَ﴾ أي يضممن الأجنحة إلى جوانبهن، قال البخاري: "يضربن بأجنحتهن، وقال مجاهد: صافاتٍ بَسْطُ أجنحتهن" ﴿ما يُمسِكُهُنَّ﴾ عن الوقوع مع ثقلها وضخامة أجسامها ﴿إلا الرحمنُ﴾ سبحانه وتعالى، والمعنى: لم يكن بقاؤها في جو الهواء إلا بقدرة الله وحفظه ﴿إنَّهُ﴾ تعالى ﴿بِكُلِّ شيءٍ بصيرٌ﴾ أي عالم بالأشياء ولا تخفى عليه خافية.
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُم مِّنْ دُونِ الرَّحْمٰنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)
﴿أمَّنْ﴾ أي من ﴿هذا الذي هُوَ جُنْدٌ﴾ أي أعوان ﴿لكُم﴾ أيها الكافرون ﴿يَنْصُرُكُم﴾ يمنع ويدفع عنكم العذاب إذا نزل بكم، والمعنى لا ناصر لكم، وقرأ البصري: "يَنْصُرْكُم" بسكون الراء بخلف عن الدوري، ﴿مِّن دونِ الرَّحمنِ﴾ أي سوى الرحمن، فقوله تعالى: ﴿أمَّن هذا الذي﴾ هو استفهام إنكاري أي لا جند لكم يدفع عنكم عذاب الله.
﴿إنِ الكافرونَ﴾ أي ما الكافرون بالله ﴿إلا في غُرُورٍ﴾ من الشياطين تغرُّهم بأن لا عذاب ولا حساب، أو المعنى: ما الكافرون بالله إلا في غرور من ظنهم أنّ ما يعبدونه من دون الله يقربهم إلى الله زُلفى وأنها تنفع أو تضر.
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُو بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
﴿أمَّنْ﴾ أي من ﴿هذا الذي يرزُقُكم﴾ أي يطعمكم ويسقيكم ويأتي بأقواتكم وينزل عليهم المطر ﴿إنْ أمسَكَ رزقهُ﴾ أي قطع عنكم رزقه، والمعنى: لا أحد يرزقكم إن حبس الله عنكم أسباب الرزق كالمطر والنبات وغيرهما ﴿بل لجُّوا﴾ أي تمادوا وأصروا مع وضوح الحق ﴿في عُتُوٍّ﴾ أي تكبر وعناد ﴿ونُفُورٍ﴾ أي تباعد عن الحق وإعراض عنه.