تفسير سُورَة الحاقة آية 33 إلى 52
ثم ذكر الله تعالى سبب عذاب الكافر فقال:
﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّـهِ الْعَظِيمِ (٣٣)﴾ أي لا يؤمن ولا يصدق بالله الذي أمر عباده بالإيمان به وترك عبادة الأوثان والأصنام، فمن ترك أعظم حقوق الله تعالى على عباده وهو توحيده تعالى وأن لا يشرك به شيء استحق العذاب الأبدي السرمدي الذي لا ينقطع في الآخرة لأن الإشراك بالله هو أكبر ذنب يقترفه العبد وهو الذنب الذي لا يغفره الله لمن مات عليه ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء كما قال الله تعالى في القرءان الكريم: ﴿إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ (٤٨)﴾ [سورة النساء]، و﴿ الْعَظِيمِ (٣٣)﴾ أي عظيم الشأن منزه عن صفات الأجسام فالله أعظم قدرًا من كل عظيم.
﴿وَلَا يَحُضُّ (٣٤)﴾ أي هذا الشقي الذي أوتي كتابه بشماله كان في الدنيا لا يحث ولا يحرّض نفسه ولا غيرها ﴿عَلَى طَعَامِ (٣٤)﴾ أي إطعام ﴿الْمِسْكِينِ (٣٤)﴾ وفي هذه الآية دليل على تعظيم الجرم في حرمان المساكين.
قال العلماء: دلت الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة على معنى أنهم يعاقبون على ترك الصلاة والزكاة ونحو ذلك وعدم الانتهاء عن الفواحش والمنكرات لا على معنى أنهم يطالبون بأداء العبادات حال كفرهم لأن العبادة لا تصح من كافر.
﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ (٣٥)﴾ أي ليس له يوم القيامة ﴿هَاهُنَا حَمِيمٌ (٣٥)﴾ أي قريب يدفع عنه عذاب الله تعالى ولا من يشفع له ويغيثه مما هو فيه من البلاء.
﴿وَلَا طَعَامٌ (٣٦)﴾ أي وليس له طعام ينتفع به ﴿ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦)﴾ وهو ما يسيل من أبدان الكفار من الدم والصديد وهو الدم المختلط بماء من الجرح ونحوه، وقيل الغسلين شجر يأكله أهل النار ﴿لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (٣٧)﴾ أي الكافرون.
﴿لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (٣٧)﴾ أي الكافرون.
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (٣٩)﴾ أي أقسم بما ترونه وما لا ترونه، وقيل: أقسم بالدنيا والآخرة، وقيل: "لا" رد لكلام المشركين كأنه قال: ليس الأمر كما يقول المشركون ثم قال تعالى: ﴿أُقْسِمُ (٣٨)﴾ وقيل: "لا" هنا نافية للقسم على معنى أنه لا يُحتاج إليه لوضوح الحق فيه كأنه قال: لا أقسم على أن القرءان قول رسول كريم فكأنه لوضوحه استغنى عن القسم.
﴿إِنَّهُ (٤٠)﴾ يعني هذا القرءان ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠)﴾ وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: جبريل، وليس القرءان من تأليف الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هو وحيٌ أوحاه الله إليه.
فائدة: قال أهل الحق: كلام الله تعالى الذي هو صفة ذاته أزلي أبدي لا يشبه كلام خلقه، فليس هو بحرف ولا صوت ولا لغة، واللفظ المنزل على سيدنا محمد باللغة العربية هو عبارة عن هذا الكلام الذاتيّ والآية تدل على ذلك، فلو كان اللفظ المنزل على سيدنا محمد هو عين كلام الله تعالى لما قال ربنا تعالى: ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠)﴾.
﴿وَمَا هُوَ (٤١)﴾ يعني هذا القرءان ﴿بِقَوْلِ شَاعِرٍ (٤١)﴾ كما تدعون ولا هو من ضروب الشعر ولا تركيبه، فقد نفى الله تعالى أن يكون القرءان قول رجل شاعر، والشاعر هو الذي يأتي بكلام مقفَّى موزون بقصد الوزن ﴿قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (٤١)﴾ قال أبو حيان: "أي تؤمنون إيمانًا قليلاً أو زمانًا قليلاً، وكذا التقدير في ﴿قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (٤٢)﴾ والقلة هو إقرارهم إذا سئلوا مَن خلقهم قالوا الله" إهـ، وقيل: أراد بالقليل عدم إيمانهم أصلاً والمعنى أنكم لا تصدقون بأن القرءان من عند الله تعالى. وقرأ ابن كثير وابن عامر بخلف عن ابن ذكوان ويعقوب: "يؤمنون" و"يذّكَّرون" بالياء فيهما مع تشديد الذال.
﴿وَلَا (٤٢)﴾ أي وليس القرءان ﴿بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (٤٢)﴾ أي ليس بقول رجل كاهن كما تدَّعون ولا هو من جنس الكهانة لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم ليس بكاهن، فالكاهن من تأتيه الشياطين ويلقون إليه ما يسمعون من أخبار الملائكة سكان السموات فيخبر الناس بما سمعه منهم، وطريقه عليه الصلاة والسلام منافية لطريق الكاهن من حيث إن ما يتلوه من الكلام مشتمل على ذم الشياطين وشتمهم فكيف يمكن أن يكون ذلك بإلقاء الشياطين إليه فإنهم لا يُلقون فيه ذمهم وشتمهم لا سيما على من يلعنهم ويطعن فيهم، وكذا معاني ما بلَّغه عليه الصلاة والسلام منافية لمعاني أقوال الكهنة فإنهم لا يدعون إلى تهذيب الاخلاق وتصحيح العقائد والأعمال المتعلقة بالمبدإ والمعاد بخلاف معاني أقواله عليه الصلاة والسلام.
﴿تَنزِيلٌ (٤٣)﴾ أي هو تنزيل يعني القرءان ﴿مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣)﴾ وذلك أنه لما قال: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠)﴾ أتبعه بقوله ﴿ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣)﴾ ليزول هذا الإشكال حتى لا يُظن أن هذا تركيبُ جبريل بل إن القرءان نزل به جبريل عليه السلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤)﴾ أي الباطلة، والأقاويل جمع الجمع وهو أقوال، وأقوال جمع قول، وسميت الأقوال المتقوّلة أقاويل تصغيرًا لها وتحقيرًا. وقال أبو حيان: "المعنى: ولو تقوَّل متقول ولا يكون الضمير في تقوَّل عائدًا على الرسول صلى الله عليه وسلم لاستحالة وقوع ذلك منه، فنحن نمنع أن يكون ذلك على سبيل الفَرْضِ في حقه عليه الصلاة والسلام" اهـ.
﴿لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥)﴾ أي لأخذنا بيده التي هي اليمين على جهة الإذلال والصَّغار كما يقول السلطان إذا أراد عقوبة رجل: يا غلام خذ بيده وافعل كذا، وقيل: لَنِلنا منه عقابه بقوة منا، وقيل: لَنَزَعنا منه قوته.
﴿ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦)﴾ قال البخاري: "وقال ابن عباس: الوتين نِيَاطُ القلب"، وهو عرق يتعلق به القلب يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه، والمعنى لو تقوّل علينا لأذهبنا حياته معجلاً.
﴿فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧)﴾ أي أنه لا يتكلف الكذب لأجلكم مع علمه أنه لو تكلف ذلك لعاقبناه ثم لم يقدر على دفع عقوبتنا عنه أحد، وقال أبو حيان: "الضمير في ﴿عَنْهُ (٤٧)﴾ الظاهر أنه يعود على الذي تقوَّل ويجوز أن يعود على القتل أي لا يقدر أحد منكم أن يحجُزَه عن ذلك ويدفَعَه عنه" اهـ.
﴿وَإِنَّهُ (٤٨)﴾ يعني القرءان ﴿ لَتَذْكِرَةٌ (٤٨)﴾ يعني عظةً ﴿ لِّلْمُتَّقِينَ (٤٨)﴾ وهم الذين يتقون عقاب الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
﴿وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم (٤٩)﴾ أيها الناس ﴿مُّكَذِّبِينَ (٤٩)﴾ بالقرءان، وهذا وعيد لمن كذب بالقرءان. وفي الآية دليل على أن الله عَلِم ما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون.
﴿وَإِنَّهُ (٥٠)﴾ أي القرءان ﴿لَحَسْرَةٌ (٥٠)﴾ أي ندامة ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠)﴾ أي يوم القيامة، والمعنى أنهم يندمون على ترك الإيمان به لما يَرَوْنَ من ثواب من ءامن به.
﴿وَإِنَّهُ (٥١)﴾ أي القرءان ﴿لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١)﴾ لا شك فيه أنه من عند الله ليس من تأليف محمد ولا جبريل عليهما السلام وفيه الحق والهدى والنور.
﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)﴾ أي نزّه الله عن النقائص والسوء وكل ما لا يليق به واشكره على أن جعلك أهلاً لإيحائه إليك.
وفي هذه الآية دليل على أن المؤمن مأمور بتنزيه خالقه عن صفات المخلوقين من الجهل والعجز والمكان والجسمية والكميَّة أي الحجم، قال الإمام السلفي أبو جعفر الطحاوي: "وتعالى -أي الله- عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات"، فالله تعالى ليس له حد أي حجم كبير ولا حجم صغير لأن كل ذلك من صفات المخلوقين والله تعالى منزه عن ذلك.