تفسير سُورَة الحاقة آية 18 إلى 32

﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ (١٨)﴾ على الله للحساب وليس ذلك عرضًا يعلم الله به ما لم يكن عالما به بل معناه الحساب وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة ﴿ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (١٨)﴾ فهو عالم بكل شيء من أعمالكم، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: "لا يخفى" بالياء.

﴿فَأَمَّا (١٩)﴾ أما حرف تفصيل فصَّل بها ما وقع في يوم العرض ﴿مَنْ أُوتِيَ (١٩)﴾ أي أُعطي ﴿كِتَابَهُ (١٩)﴾ أي كتاب أعماله ﴿ بِيَمِينِهِ (١٩)﴾ وإعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة ﴿فَيَقُولُ (١٩)﴾ المؤمن خطابًا لجماعته لما سُرَّ به ﴿هَاؤُمُ (١٩)﴾ أي خذوا، وقيل تعالوا ﴿اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (١٩)﴾ والمعنى أنه لما بلغ الغاية في السرور وعلم أنه من الناجين بإعطاء كتابه بيمينه أحب أن يُظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا له.

﴿إِنِّي ظَنَنتُ (٢٠)﴾ أي علمتُ وأيقنتُ في الدنيا، قال أبو حيان: "﴿ إِنِّي ظَنَنتُ (٢٠)﴾ أي أيقنتُ، ولو كان ظنًّا فيه تجويز لكان كفرًا" اهـ، فُسر الظن هنا بمعنى اليقين لأنه لو أبقي على أصله أي بمعنى الشك والتردد لكان المعنى أنه ظن أي شك هل يحاسب في الآخرة أم لا، والاعتقاد بالبعث والحساب من جملة العقائد الدينية التي يجب الإيمان بها، والشك فيهما كفر، والإيمان لا يحصل بالشك والظن بل لا بد للمؤمن أن يتيقن بحقية البعث والحساب، فيكون معنى الآية: إني علمت وتيقنت في الدنيا أن الله تعالى يبعثني و﴿ أَنِّي مُلَاقٍ (٢٠)﴾ أي ثابت لي ثباتًا لا ينفك أني لاق ﴿ حِسَابِيَهْ (٢٠)﴾ في الآخرة ولم أنكر البعث.

﴿فَهُوَ (٢١)﴾ أي الذي أعطي كتابه بيمينه ﴿فِي عِيشَةٍ (٢١)﴾ أي في حالةٍ من العيش ﴿رَّاضِيَةٍ (٢١)﴾ يعني ذات رضا أي رضي بها صاحبها، وقيل عيشة مرضية وذلك بأنه لقي الثواب وأمِنَ من العقاب.

روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ لكم أن تَصِحُّوا فلا تَسْقموا أبدًا، وإنَّ لكم أن تحْيَوا فلا تموتوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تَشِبُّوا فلا تَهْرَموا أبدًا، وإنَّ لكم أن تَنْعَموا فلا تَبْأسُوا أبدًا". أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: باب في دوام نعيم أهل الجنة.

﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (٢٢)﴾ مكانًا فهي فوق السموات السبع، وعالية في الدرجة والشرف والأبنية. روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها". أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق: باب صفة الجنة والنار.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا: "إنَّ للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوَّفة طولها سِتُّون ميلاً" رواه مسلم. أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: باب في صفة خيام الجنة وما للمؤمنين فيها من الأهلين.

وقال أيضًا: "إنَّ في الجنة مائةَ درجة أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتُم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة" رواه البخاري. أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجهاد: باب درجات المجاهدين في سبيل الله.

﴿قُطُوفُهَا (٢٣)﴾ أي ما يُقطف من ثمار الجنة ﴿ دَانِيَةٌ (٢٣)﴾ أي قريبة لمن يتناولها قائمًا أو قاعدًا أو نائمًا على السرير انقادت له وكذا إن أراد أن تدنو إلى فِيْه أي فمه دنت لا يمنعه من ثمرها بُعْد،

ويقال لهم: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤)﴾ ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا (٢٤)﴾ أمر امتنان لا تكليف أي يقال لهم ذلك إنعامًا وإحسانًا وامتنانًا وتفضيلاً عليهم فإن الآخرة ليست بدار تكليف ﴿ هَنِيئًا (٢٤)﴾ أي لا تكدير فيه ولا تنغيص لا تتأذون بما تأكلون ولا بما تشربون في الجنة أكلاً طيبًا لذيذًا شهيًّا مع البعد عن كل أذى ولا تحتاجون من أكل ذلك إلى غائط ولا بول، ولا بصاق هناك ولا مخاط ولا وهن ولا صداع ﴿ بِمَا أَسْلَفْتُمْ (٢٤)﴾ أي بما قدمتم لآخرتكم من الأعمال الصالحة ﴿ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤)﴾ أي في أيام الدنيا التي خلت فمضت واسترحتم من تعبها.

﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ (٢٥)﴾ أي أُعطي كتاب أعماله ﴿بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ (٢٥)﴾ لما يرى من سوء عاقبته التي كُشف له عنها الغطاء ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (٢٥)﴾ أي تمنى أنه لم يؤت كتابه لما يرى فيه من قبائح أفعاله.

روى ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يُدعى أحدهم فيُعطى كتابه بيمينه ويمدُّ له في جسمه ستون ذراعًا ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ قال: فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهم بارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول: أبشروا فإن لكل رجل منكم مثلَ هذا، وأما الكافر فيعطى كتابه بشماله مسودًا وجهه ويزاد في جسمه ستون ذراعًا على صورة ءادم ويَلبس تاجًا من نار فيراه أصحابه فيقولون: اللهم اخزه فيقول: أبعدكم الله فإن لكل واحد منكم مثل هذا". أخرجه ابن حبان في صحيحه، انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان [9/222].

﴿وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (٢٦)﴾ أي وتمنى أنه لم يدر حسابه لأنه لا حاصل له في ذلك الحساب ولا طائل إذ كله عليه لا له.

﴿يَا لَيْتَهَا (٢٧)﴾ أي الموتة التي متها في الدنيا، فإنه تمنى أنه لم يبعث للحساب ﴿كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (٢٧)﴾ أي القاطعة للحياة ولم أَحْيَ بعدها فلم أُبعث ولم أعذب، فقد تمنى الموت ولم يكن شيء عنده أكرهَ منه إليه في الدنيا لأنه رأى تلك الحالة أشنع وأمرّ مما ذاقه من الموت.
قال البخاري: "القاضية" الموتة الأولى التي مُتُّها، لم أحْيَ بعدها".

روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تبارك وتعالى لأهون أهل النار عذابًا: لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنتَ مفتديًا بها ؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردتُ منك أهونَ من هذا وأنت في صُلب ءادم أن لا تشرك، فأبيتَ إلا الشرك". أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم: باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبًا.

﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٢٨)﴾ يعني أنه لم يدفع عنه ماله الذي كان يملكه في الدنيا من عذاب الله شيئًا، ويجوز أن يكون استفهامًا وبَّخ به نفسه وقررها عليه، قاله أبو حيان.

﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (٢٩)﴾ يعني ضلت عني كل بينة فلم تغن عني شيئًا وبطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا، وقيل: زال عني ملكي وقوتي.

﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠)﴾ أي يقول الله تعالى لخزنة جهنم خذوه واجمعوا يديه إلى عنقه مقيَّدًا بالأغلال ﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ (٣١)﴾ أي نار جهنم ﴿صَلُّوهُ (٣١)﴾ أي أدخلوه واغمروه فيها ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ (٣٢)﴾ وهي حَلقٌ منتظمة كل حلقة منها في حلقة، وهذه السلسلة عظيمة جدًّا لأنها إذا طالت كان الإرهابُ أشدَّ ﴿ذَرْعُهَا (٣٢)﴾ أي قياسها ومقدار طولها ﴿سَبْعُونَ ذِرَاعًا (٣٢)﴾ الله أعلم بأي ذراع هي ﴿فَاسْلُكُوهُ (٣٢)﴾ أي أدخلوه، والظاهر أنهم يدخلونه في السلسلة ولطولها تلتوي عليه من جميع جهاته فيبقى داخلاً فيها مضغوطًا حتى تعمه، وقيل: تدخل في دبره وتخرج من منخره، وقيل: تدخل في فِيْه وتخرج من دبرهِ.

أخرج الترمذي في جامعه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن رُضَاضةً مثل هذه، وأشار إلى مثل الجُمْجُمة، أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفًا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها". قال الترمذي: إسناده حسن. أخرجه الترمذي في سننه: كتاب صفة جهنم: بعد باب "ما جاء في صفة طعام أهل النار".