تفسير سورة المعارج آية 15 إلى 44

﴿كلا﴾ ردع للمجرم ونفي لما يودُّه من الافتداء، وفي الآية دلالة على أن الافتداء لا ينجيه من عذاب الله، ثم ابتدأ الله عزَّ وجلَّ الخبر عما أعده للكافر يوم القيامة فقال: ﴿إنَّها﴾ أي النار ﴿لظى﴾ أي جهنم، سُميت لظى لأنها تتلظى أي تتلهب على الكافر.

﴿نَزَّاعةٌ للشوى﴾ جمع شواة وهي جلدة الرأس أي تنزع جلدة الرأس، وقيل: الشوى أطراف الإنسان كاليدين والرجلين، والمعنى قَلَّاعَةٌ للأعضاء الواقعة في أطراف الجسد ثم تعود كما كانت وهكذا أبدًا. وقرأ الجمهور: "نَزَّاعَةٌ" بالرفع على معنى: هي نزاعة، وقرأ حفص: "نَزَّاعَةًً" بالنصب.

﴿تَدْعُوا﴾ يعني النار إلى نفسها حقيقة يخلق الله فيها الكلام كما يخلقه في الأعضاء ﴿مَنْ أدبَرَ﴾ في الدنيا عن طاعة الله ﴿وتَوَلَّى﴾ عن الإيمان بالله ورسوله، ودعاؤها أن تقول: إليَّ يا مشرك إليَّ يا كافر، تدعو الكافرين ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب.

﴿وجَمَعَ﴾ أي جمع المال ﴿فأوعى﴾ أي جعله في وعائه ومنع منه حق الله تعالى.

﴿إنَّ الإنسانَ﴾ أريد به الجنس ولذلك استثنى منه بقوله: "إلا المصلين" ﴿خُلِقَ هَلوعًا﴾ الهلع في اللغة: أشد الحرص وأسوأ الجَزَع وأفحشه، وتفسير الآية ما بعدها وهو قوله تعالى: ﴿إذا مسَّهُ﴾ أي أصابه ﴿الشرُّ جزوعًا﴾ أي أظهر شدة الجزع فلم يصبر.

﴿وإذا مسَّهُ الخيرُ مَنُوعًا﴾ أي إذا كَثُر ماله ونال الغنى فهو منوع لما في يديه بخيل به لا ينفقه في طاعة الله ولا يؤدي حق الله منه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شرُّ ما في رَجلٍ شحٌّ هالعٌ وجبنٌ خالعٌ" رواه أبو داود وغيره [أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الجهاد: باب في الجرأة والجبن]. قال الحافظ الفقيه محمد مرتضى الزبيدي الحنفي رحمه الله تعالى في شرح الإحياء ممزوجًا بالمتن ما نصه (إتحاف السادة المتقين [8/194]): "[شر ما في الرجل] أي من مساوئ أخلاقه [شح هالع] أي جازع يعني شح يحمل على الحرص على المال والجزع على ذهابه [وجبن خالع] أي شديد كأنه يخلع فؤاده من شدة خوفه من الخلق. قال العراقي: "رواه أبو داود من حديث أبي هريرة بسند جيد" انتهى قلت: ورواه كذلك البخاري في التاريخ والحكيم في النوادر وابن جرير في التهذيب والبيهقي في الشعب، وقال ابن طاهر: إسناده متصل" انتهى كلام الزبيدي.

﴿إلا المُصَلِّينَ﴾ وهم أهل الإيمان بالله، وهذا استثناء ولذلك وصفهم بما وصفهم به من الصبر على المكاره والصفات الجميلة والمعنى: إلا الذين يطيعون الله بأداء ما افترض عليهم من الصلاة.

﴿الذينَ هُم على صلاتِهِم﴾ أي الصلاة المفروضة التي فرضها الله على عباده ﴿دائمونَ﴾ أي مواظبون عليها في أوقاتها لا يتركونها.

﴿والذينَ في أموالهِم حقٌّ معلومٌ﴾ يعني الزكاة المفروضة.

﴿للسائِلِ﴾ المحتاج الذي يسأل الناس لفاقته ﴿والمحرومِ﴾ أي المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئًا ولا يُعلِم الناس بحاجته، وقيل غير ذلك.

﴿والذينَ يُصدِّقونَ﴾ أي يؤمنون ويعتقدون اعتقادًا جازمًا ﴿بيومِ الدينِ﴾ وهو يوم القيامة أي يصدقون بالبعث والحشر والجزاء والحساب.

﴿والذينَ هُم من عذابِ ربِّهم مُّشفِقونَ﴾ أي والذين هم في الدنيا من عذاب ربهم خائفون أن يعذبهم الله في الآخرة، فهم من خشية ذلك لا يضيعون له فرضًا ولا يتعدون له حدًّا.

﴿إنَّ عذابَ ربهم غيرُ مأمونٍ﴾ أي لا ينبغي لأحد أن يأمنه بل يكون بين الخوف والرجاء يخاف عذاب ربه ويرجو رحمته.

﴿والذينَ هُم لِفُروجهم حافظون﴾ أي يحفظونها عن المحرمات كالزنى ونحوه. روى البخاري في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يَضمن لي ما بين لَحيَيْهِ وما بين رجليه أضمَن له الجنة". [أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق: باب حفظ اللسان]

﴿إلا على أزواجهم﴾ أي إلا من نسائهم اللاتي أحل الله لهم ﴿أو ما ملَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ يعني الإماء المملوكات بالطريق الشرعي ﴿فإنَّهُم غيرُ مَلومينَ﴾ يعني بعدم حفظ فرجه من امرأته وأمته اللتين أحل الله له الاستمتاع بهن بالجماع وغيره فإنه لا يلام على ذلك.

﴿فَمَنِ ابتغى وراءَ ذلكَ﴾ أي من التمس وطلب منكِحًا سوى زوجته أو ملك يمينه وهي الأمة المملوكة بالطريق الشرعي ﴿فأولئكَ هُمُ العادونَ﴾ أي الظالمون المجاوزون الحد من الحلال إلى الحرام.

﴿والذينَ هُمْ لأمانتِهم﴾ أي لأمانات الله التي ائتمنهم عليها من قول وفعل واعتقاد فيدخل في ذلك جميع الواجبات من الأفعال والتروك فيجب الوفاء بجميعها، وأمانات عباده التي ائتمنوا عليها بالقيام عليها لحفظها إلى أن تؤدى ﴿وعَهْدِهِمْ﴾ أي عهودِ الله التي أخذها عليهم بطاعته فيما أمرهم به ونهاهم، وعهودِ عباده لما عاهدوا عليه غيرهم ﴿راعونَ﴾ أي حافظون، يحفظونه فلا يضيعونه ولكنهم يؤدونها ويتعاهدونها على ما ألزمهم الله وأوجب عليهم حفظها.

وقرأ ابن كثير وحده: "لأمانتهم".

﴿والذينَ هُم بِشَهاداتِهِم قائِمونَ﴾ أي لا يكتمون ما استُشهدوا عليه ولكنهم يقومون بأدائها غير مغيَّرة ولا مبدَّلة، وهذه الشهادة من جملة الأمانات إلا أنه خصها بالذكر لفضلها لأن بها تحيا الحقوق وتظهر في تركها وتضيع.

وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: "بشهادتهم"، وقرأ حفص عن عاصم: "بشهاداتهم".

﴿والذينَ هُم على صلاتِهِم يُحافِظون﴾ أي يؤدون الصلوات الخمسَ المفروضة في وقتها مع الإتيان بشروطها وأركانها.

﴿أولئكَ﴾ يعني من هذا صفته ﴿في جنَّاتٍ مُكرمون﴾ أي يكرمهم الله بكرامته.

﴿فمالِ الذينَ كفروا﴾ أي فما بال الذين كفروا ﴿قِبَلَكَ﴾ أي نحوك يا محمد ﴿مُهْطِعينَ﴾ أي مسرعين في التكذيب لك، وقيل: يُسرعون إلى السماع منك لِيَعيبوك ويستهزءوا بك، وقيل: مسرعين عليك مادّين أعناقهم مدمني النظر إليك وذلك من نظر العدو.

﴿عَنِ اليمينِ وعنِ الشِّمالِ﴾ أي عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن شماله ﴿عِزينَ﴾ متفرقين حلقًا ومجالس جماعة جماعة معرضين عنك وعن كتاب الله.

﴿أيَطمعُ كلُّ امرئٍ منهُم أن يُدْخَلَ جَنَّةَ نعيمٍ﴾ أي أيطمع كل رجل من هؤلاء الذين كفروا أن يدخل الجنة كما يدخلها المسلمون ويتنعم فيها.

﴿كلا﴾ ردٌّ وردع لطماعيتهم والمعنى لا يدخلون الجنة ﴿إنَّا خلقناهُم ممَّا يَعلمونَ﴾ أي أنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة كما خلق سائر جنسهم، فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة وإنما تُستوجَب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى.

﴿فلا أقسمُ﴾ أي أقسم ﴿بربِّ المشارِقِ﴾ أي مطالع الشمس ﴿والمغاربِ﴾ أي مغاربها والمراد بالمشارق والمغارب: شرقُ كل يوم ومغربُهُ ﴿إنَّا لَقادرونَ  على أن نُّبَدِّلَ خيرًا منهم﴾ أي إنا لقادرون على إهلاكهم وعلى أن نخلق أمثل منهم وأطوع لله ﴿وما نحنُ بِمَسبوقين﴾ أي بمغلوبين عاجزين عن إهلاكهم وإبدالهم بمن هو خير منهم، فلا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده.

﴿فَذَرهُم﴾ أي دع المكذبين واتركهم وهذا اللفظ أمر معناه الوعيد ﴿يخوضوا﴾ في باطلهم ﴿ويلعبوا﴾ أي يلهوا في دنياهم، ﴿حتى يُلاقوا يومَهُم الذي يُوعدونَ﴾ أي حتى يلاقوا عذاب يوم القيامة الذي يوعدونه.

قال ابن الجوزي: "زعم بعض المفسرين أنها منسوخة بآية السيف، وإذا قلنا إنه وعيد بلقاء القيامة فلا وجه للنسخ" اهـ.

﴿يومَ يَخرجونَ مِنَ الأجداثِ﴾ أي القبور ﴿سِراعًا﴾ أي مسرعين حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي، والمعنى: يخرجون من القبور مسرعين إلى المحشر ﴿كأنَّهُم إلى نُصُبٍ﴾ أي الأصنام التي كانوا يعبدونها ﴿يُوفِضُون﴾ أي يسرعون، ومعنى الآية: أنهم يخرجون من الأجداث وهي القبور مسرعين إلى الداعي مُسْتَبِقِينَ إليه كما كانوا يستبقون إلى نصبهم ليستلموها، والأنصاب هي التي كان أهل الجاهلية يعبدونها ويأتونها ويعظمونها.

وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: "نُصُبٍ" بضم النون والصاد، وقرأ الباقون: "نَصْبٍ" بفتح النون وإسكان الصاد، وهي في معنى القراءة الأولى.

﴿خاشعةً أبصارُهُم﴾ أي ذليلة خاضعة لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله ﴿تَرهقُهُم ذِلَّةٌ﴾ أي يغشاهم الهوان ﴿ذلكَ اليومُ﴾ وهو يوم القيامة ﴿الذي كانوا يُوعَدونَ﴾ به في الدنيا أن لهم فيه العذاب.