تفسير سورة نوح آية 1 إلى 16

﴿إنَّا أرسَلنا نوحًا إلى قومِهِ﴾ أي أرسله الله تعالى ليدعو قومه إلى عبادة الله عزَّ وجلَّ وترك عبادة الأوثان، فهو أول نبي أُرسل إلى الكفار وليس هو أول نبي على الإطلاق بل أولهم ءادم عليه السلام ﴿أن أنذِرْ قومَكَ﴾ وخوّفهم وحذّرهم ﴿مِنْ قبلِ أن يأتيَهُم عذابٌ أليمٌ﴾ يعني عذاب النار في الآخرة أو الغرق بالطُوْفان، وقيل: أي أنذرهم العذاب الأليم على الجملة إن لم يؤمنوا.

﴿قالَ﴾ نوح لقومه ﴿يا قومِ إنِّي لكُم نذيرٌ﴾ أنذركم عذاب الله فاحذروه أن ينزل بكم على كفركم به ﴿مبينٌ﴾ أي أثبت لكم إنذاري إياكم، أي إنذاري بَيّن وواضح، وقيل: أبيّن لكم رسالة الله بلغة تعرفونها.

﴿أنِ اعبدوا اللهَ﴾ أي اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا ﴿واتَّقوهُ﴾ أي امتثلوا أوامره واجتنبوا معاصيه ﴿وأطيعونِ﴾ فيما ءامركم به وأنهاكم عنه فإني رسول الله إليكم.

وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي: "أن اعبدوا الله" بضم النون، وقرأ عاصم، وحمزة وأبو عمرو بكسر النون.

فائدة: في هذه الآية أمرٌ من الله تعالى لعباده بأن يوحّدوه ويطيعوه، وهذا ردٌّ على الذين يقولون بحرية العقيدة أي يزعمون أن الإنسان إذا أراد أن يعبد شيئا غير الله  أو ينكر وجود الله فله ذلك والعياذ بالله، وهو كلام باطل لا يُقرُّه صاحب عقل.

﴿يغفرْ لكُم﴾ جواب الأمر، وجُزم ﴿يغفر﴾ بجواب الأوامر الثلاثة وهي: عبادته عزَّ وجلَّ وتقواه وطاعته ﴿من ذنوبِكم﴾ أي بعض ذنوبكم لأن الإيمان إنما يَجُبُّ ما قبله من الذنوب أي يغفر لكم ما سلف من ذنوبكم إلى وقت الإيمان ﴿ويُؤَخِّرْكُم إلى أجَلٍ﴾ وهو وقت موتكم ﴿مُسَمًّى﴾ أي معلوم معيَّن عند الله لا يزيد ولا ينقص، فإن الله تعالى علم بعلمه الأزلي مَن يموت على الإيمان ومَن يموت على الكفر ومتى يكون منتهى ءاجال العباد ﴿إنَّ أجَلَ اللهِ إذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ﴾ أي إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب، وأضاف الله الأجل إليه لأنه الذي أثبته، وقد يضاف إلى القوم كقوله تعالى: ﴿فإذا جاءَ أجلُهُم﴾ [سورة النحل] لأنه مضروب لهم.

﴿لو كُنْتُم تعلمونَ﴾ أي لو كنتم تعلمون ما يحل بكم من الندامة عند انقضاء أجلكم لآمنتم.

﴿قالَ﴾ نوح عليه السلام لما بلَّغ قومه رسالة ربه فعصوه وردوا عليه ما أتاهم به من عند الله ﴿رّبِّ إنِّي دَعَوْتُ قومي﴾ إلى توحيدك وعبادتك وحذرتهم بأسك ﴿ليلاً ونهارًا﴾ أي في كل الأوقات بلا فتور

﴿فلم يَزِدْهُم دُعائي﴾ إياهم إلى ما دعوتهم إليه من الحق الذي أرسلتني به لهم ﴿إلا فِرارًا﴾ أي تباعدًا من الإيمان، ونسب ذلك إلى دعائه وإن لم يكن الدعاء سببًا للفرار من الحقيقة.

﴿وإنِّي كُلَّما دعَوْتُهم﴾ إلى الإقرار بوحدانيتك والعمل بطاعتك والبراءة من عبادة كل ما سواك ﴿لِتَغفرَ لهُم﴾ أي ليتوبوا فتغفر لهم، أي كلما دعوتُهم إلى سبب المغفرة وهي الإيمان بك والطاعة لك ﴿جَعَلوا أصابِعهُم في ءاذانِهِم﴾ أي سدوا مسامعهم بأصابعهم حتى لا يسمعوا دعائي إياهم إلى عبادتك ﴿واسْتَغشَوْا ثِيابَهُم﴾ أي غَطَّوا وجوههم بثيابهم حتى لا ينظروا إلى نبي الله نوح عليه السلام كراهة وبغضًا من سماع النصح ورؤية الناصح ﴿وأصَرُّوا﴾ أي على الكفر فلم يتوبوا ﴿واسْتَكبروا﴾ أي تكبّروا عن قبول الحق ﴿استِكبارًا﴾ ذِكرُ المصدر هنا دليل على فرط استكبارهم أي تكبروا تكبرًا عظيمًا.

﴿ثُمَّ إني دعَوتُهُم﴾ إلى ما أمرتني أن أدعوهم إليه ﴿جِهارًا﴾ أي معلنًا لهم بين الناس ظاهرًا من غير خفاء.

﴿ثمَّ إنِّي أعلنتُ لهم﴾ أي كررت لهم الدعاء معلنًا ﴿وأسْرَرْتُ﴾ الكلام ﴿لهُم إسرارًا﴾ أي فيما بيني وبينهم في خفاء، وكل هذا من نوح مبالغة في الدعاء لهم، فقد نوَّع سيدنا نوح عليه السلام بالدعوة فتارة يدعوهم سرًّا وتارة يجاهر بالدعوة وتارة يجمع بين الإسرار والجهر.

﴿فقلتُ﴾ أي قال سيدنا نوح عليه السلام لقومه يأمرهم بالدخول في الإسلام ﴿استَغْفِروا ربَّكُمْ﴾ أي اطلبوا من ربكم المغفرة بترك الكفر الذي أنتم عليه بالإيمان بالله وحده في استحقاق الألوهية والإيمان بنوح أنه نبي الله ورسوله إليكم بالنطق بالشهادتين، وليس المراد بالاستغفار هنا مجرد القول باللسان: "أستغفر الله" لأن قوم نوح كانوا على الشرك، والكافر لا يصح منه النطق بقول: "أستغفر الله" وهو على كفره وإنما يدخل في الإسلام بالنطق بالشهادتين.

﴿إنَّهُ كانَ غَفَّارًا﴾ أي غفارًا لذنوب من أناب وتاب إليه من ذنوبه.

﴿يُرسِلِ السَّماءَ عليكُم﴾ أي ماء السماء ﴿مِدرارًا﴾ أي ذا غيث كثير

﴿ويُمْدِدْكُم بأموالٍ وبنينٍ﴾ أي يكثّر أموالكم وأولادكم ﴿ويجعل لكم جنَّاتٍ﴾ أي يرزقكم بساتين ﴿ويجعل لكم أنهارًا﴾ أي أنهارًا جارية تسقون منها مزارعكم وبساتينكم.

﴿ما لكُم لا ترجونَ للهِ وقارًا﴾ أي ما لكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أحدكم بالعقوبة، وقيل: ما لكم لا ترجون لله ثوابًا ولا تخافون له عقابًا.

﴿وقد خَلَقَكُم أطوارًا﴾ أي طورًا بعد طور أي طورًا نطفة وطورًا علقة وطورًا مضغة وطورًا عظامًا ثم كسا العظام لحمًا ثم أنشأه خلقًا ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين.

ثم لما نبههم نوح عليه السلام على الفكر في أنفسهم وكيف انتقلوا من حال إلى حال وكانت الأنفس أقربَ ما يفكرون فيه منهم، أرشدهم إلى الفكر في العالم عُلوِهِ وسُفلِهِ وما أودع الله تعالى فيه، وذكر لهم دليلًا ءاخر يدلُّ على توحيده وسعة قدره، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾ أي تنظروا وتتفكروا وتعتبروا ﴿كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً﴾ بعضها فوق بعض.

﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً﴾ أي في السماء الدنيا، وقيل: إن وجه القمر قِبَلَ السماوات وظهرَه قِبَلَ الأرضِ يضيء لأهل السماوات كما يضيء لأهل الأرض ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً﴾ أي مصباحًا مضيئًا لأهل الأرض ليتوصلوا إلى التصرف لمعايشهم، وقد شبّه الشمس بالسراج من حيث أنها تزيل ظلمة الليل عن وجه الأرض كما يزيلها السراج عما حوله.