تفسير سورة نوح آية 17 إلى 28
﴿واللهُ﴾ القادر على كل شيء هو الذي ﴿أنبَتكُم﴾ أي أنشأكم وخلقكم، والإنبات استعارة في الإنشاء أي أنشأ ءادم عليه السلام ﴿مِنَ الأرضِ﴾ وصارت ذريته منه، فصح نسبتهم كلهم إلى أنهم أُنبتوا منها ﴿نباتًا﴾ أي إنباتًا، أو على معنى فَنَبَتم نباتًا. وقد نبَّه بذلك إلى أن الإنسان هو من وجه نبات من حيث إن بدأه ونشأه من التراب وأنه ينمو نموه وإن كان له وصف زائد على النبات.
﴿ثمَّ يُعيدُكُم فيها﴾ عند موتكم بالدفن يعيدكم إلى الأرض كما كنتم ترابًا.
﴿ويُخرجُكم﴾ من الأرض يوم القيامة بالنشور للبعث ويعيدكم كما كنتم في الدنيا ﴿إخراجًا﴾ أكَّدَه بالمصدر أي ذلك واقع لا محالة.
﴿واللهُ﴾ عزَّ وجلَّ ﴿جعلَ لكُم الأرضَ بِساطًا﴾ أي مبسوطة تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه.
﴿لِتَسْلُكوا منها سُبُلاً﴾ أي طُرُقًا ﴿فِجاجًا﴾ أي واسعة.
ولما أصروا على العصيان وعاملوه بأقبح الأقوال والأفعال ﴿قالَ نوحٌ ربِّ إنَّهُم عَصَوني﴾ فيما أمرتهم به فلم يجيبوا دعوتي لهم بالإيمان بك وأني رسولك ﴿واتَّبَعوا﴾ عامتُهم وسفلتُهم ﴿مَنْ لم يَزِدهُ مالهُ وولدُهُ إلا خَسَارًا﴾ اتبعوا رؤساءهم وأغنياءهم الذين لم يزدهم كفرهم وأموالهم إلا ضلالاً في الدنيا وهلاكًا في الآخرة.
وقرأ أهل المدينة، وابن عامر، وعاصم: "وَوَلَدُهُ" بفتح اللام والواو، وقرأ الباقون: "وَوُلْدُهُ" بضم الواو وسكون اللام، وهما بمعنى واحد.
﴿وَمَكروا﴾ أي وكان مكرُهم احتيالُهم في الدّين وكيدُهم لنوح عليه السلام وتحريشُ السَّفَلَةِ على أذاه وصدُّ الناس عن الإيمان به والميلِ إليه والاستماعِ منه ﴿مَكْرًا كُبَّارًا﴾ أي مكرًا كبيرًا عظيمًا.
﴿وقالوا﴾ أي قال القادة لأتباعهم، أو قال بعضهم لبعض ﴿لا تَذَرنَّ ءالِهَتكم﴾ أي لا تتركن عبادة أصنامكم ﴿ولا تذرنَّ وَدًّا ولا سُواعًا ولا يغوثَ ويعوقَ ونَسْرًا﴾ وهذه أسماء قوم صالحين كانوا بين ءادم ونوح عليهما السلام فلمَّا ماتوا كان لهم أتباع يقتدون بهم ويأخذون بعدهم مأخذهم في العبادة فجاءهم إبليس وقال لهم: لو صوَّرتم صورهم كان أنشطَ لكم وأشوقَ إلى العبادة ففعلوا ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فعبدوهم، فكان ابتداء عبادة الأوثان من ذلك الوقت، فكان نوحٌ أولَ رسول أرسله الله إلى الكفار.
روى البخاري (أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التفسير: باب سورة نوح) في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوحٍ في العرب بَعْدُ، أما ودٌّ فكانت لكلْبٍ بدُوْمَةِ الجَنْدل، وأما سُواعٌ فكانت لِهُذَيْل، وأما يَغُوثُ فكانت لِمُرادٍ ثم لبني غُطَيْفٍ بالجُرُف عند سبإ، وأما يعوقُ فكانت لِهَمْدَانَ، وأما نسْرٌ فكانت لِحِمْيَرَ لآل ذي الكَلَاعِ، أسماءُ رجال صالحين من قوم نوحٍ، فلما هَلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصِبُوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسَمُّوها بأسمائهم ففعلوا، فلم تُعْبَد حتى إذا هلكَ أولئك وتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَت".
﴿وقد أضلُّوا كثيرًا﴾ أي أضل الرؤساء المتبوعون كثيرًا من أتباعهم وعامتهم، وهذا إخبار من نوح عليه السلام عنهم بما جرى على أيديهم من الضلال. ولما أخبر أنهم ضلوا كثيرًا دعا عليهم بالضلال فقال ﴿ولا تَزِدِ الظالمينَ﴾ أي المشركين بعبادتهم الأصنام ﴿إلا ضَلالاً﴾ أي إلا طبعًا على قلوبهم حتى لا يهتدوا للحق.
فإن قيل: كيف يليق بمنصب النبوة أن يدعو بمزيد الضلال وإنما بُعث لهدايتهم وإرشادهم ؟!
فالجواب: أنه إنما دعا عليهم لا رضًا بكفرهم وإنما تشديدًا عليهم ليأسه من إيمانهم بإخبار الله له بذلك أنهم لا يؤمنون كما في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿أنَّهُ لن يؤمنَ من قومكَ إلا من قد ءامنَ﴾ [سورة هود].
﴿مَمَّا خَطِيئاتِهم﴾ أي بسبب ذنوبهم وشركهم ﴿أُغْرِقوا﴾ بالطوفان ﴿فأُدخِلوا نارًا﴾ أي نار جهنم، وعبَّر عن المستقبل بالماضي لتحققه، أو عبَّر بالدخول عن عرضهم على النار غدوًّا وعشيًّا كما قال: ﴿النَّارُ يُعرَضون عليها غُدُوًّا وعشيًا ويومَ تقومُ الساعةُ أدخلوا ءال فرعونَ أشدَّ العذابَ﴾ [سورة غافر]، ﴿فلمْ يَجِدوا لهم من دونِ اللهِ أنصارًا﴾ أي لم يجدوا غير الله أنصارًا تنصرهم وتمنعهم وتدفع عنهم عذاب الله.
وقرأ أبو عمرو: "مما خطاياهم".
﴿وقالَ نوحٌ ربِّ لا تَذَرْ﴾ أي لا تترك ﴿على الأرضِ مِنَ الكافرينَ دَيَّارًا﴾ أي أحدًا.
﴿إنَّكَ إنْ تَذَرهُم﴾ أي إن تذر الكافرين أحياء على الأرض ولم تهلكهم بعذاب من عندك ﴿يُضِلُّوا عِبادَكَ﴾ أي يدعوهم إلى الضلال ﴿ولا يَلِدوا إلا فاجرًا كَفَّارًا﴾ أي إلا مَن سيكون فاجرًا كفَّارًا إذا بلغ مبلغ التكليف، وإنما قال ذلك لما جرَّبهم واستقرى أحوالهم وعرف طباعهم فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، وكما أنه عليه السلام دعا عليهم بعد أن أوحى الله تعالى إليه: ﴿أنّهُ لن يؤمنَ من قومِكَ إلا مَنْ قد ءامَنَ﴾ [سورة هود].
﴿رَبِّ اغفِرْ لي ولوالِدَيَّ﴾ وكانا مؤمنين ﴿ولمَن دخَلَ بيتي مُؤمنًا وللمؤمنين والمؤمناتِ﴾ أي بيتي مسجدي، وقيل: منزله، وقيل: سفينته ﴿ولا تَزِدِ الظالمينَ﴾ أي الكافرين ﴿إلا تبارًا﴾ أي هلاكًا، فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم.
وقرأ حفص عن عاصم: "بيتيَ" بفتح الياء.