تفسير سورة الجن آية 11 إلى 28
﴿وأنَّا﴾ هذا إخبار من الجن بما هم عليه من الصلاح وغيره ﴿مِنَّا الصالحون﴾ أي المؤمنون المتقون العاملون بطاعة الله عزَّ وجلَّ ﴿ومِنَّا دونَ ذلكَ﴾ أي ومنا غير المؤمنين، ويجوز أن يريدوا ومنا دون ذلك في الصلاح، أي فيهم أبرار وفيهم من هو غير كامل في الصلاح ﴿كُنَّا طرائِقَ قِدَدًا﴾ أي أهواء مختلفة، وفِرقًا شتى.
﴿وأنَّا ظنَنَّا﴾ أي علمنا وأيقنا ﴿أن لن نُعْجِزَ اللهَ﴾ أي لن نَفُوتَهُ ﴿في الأرض﴾ أينما كنا إذا أراد بنا أمرًا ﴿ولن نُعجِزَهُ هَرَبًا﴾ من الأرض إلى السماء، ومعنى الآية أن الجن قالوا لن نُعجز الله كائنين في الأرض أينما كنا فيها وهاربين منها إلى السماء، ولن نُعجزه عن إمضاء ما أراد بنا سواء كنا ساكنين مستقرين في الأرض أو هاربين فيها من موضع إلى ءاخر، فالفرار وعدمه سِيَّان في أن شيئًا منهما لا يمنع ولا يدفع نفاذ إرادة الله عزَّ وجلَّ فينا، فالأرض مع سعتها وانبساطها ليست منجى منه تعالى ولا مهربًا، ألا ترى إلى قوم نوح كيف أغرقهم الله بالطوفان ونجَّى الذين ءامنوا بنوح عليه السلام، فسبحان الله الذي بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير.
﴿وأنَّا لمَّا سمِعنا الهُدى﴾ أي لمَّا سمع الجن القرءان الذي يهدي إلى الصراط المستقيم قالوا ﴿ءامنَّا بهِ﴾ أي صدقنا به وأقررنا أنه حق من عند الله ﴿فَمَن يُؤمِن بربِّهِ فلا يخافُ بَخسًا﴾ أي لا يخاف أن يُنْقَص من حسناته فلا يجازَى عليها ﴿ولا رَهَقًا﴾ أي ولا يخاف أن يزاد في سيئاته، وقيل ولا ظلمًا ولا مكروهًا يخشاه.
﴿وأنَّا مِنَّا المُسْلمونَ﴾ أي الذين ءامنوا بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ومِنَّا القاسِطونَ﴾ أي الكافرون الجائرون عن الحق ﴿فَمَنْ أسلَمَ فأولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا﴾ أي قصدوا طريق الحق وتوخَّوه.
﴿وأمَّا القاسِطونَ﴾ أي الجائرون على طريق الحق والإيمان وهم كفار الجن ﴿فكانوا لِجَهنَّمَ حَطَبًا﴾ أي حطبًا توقد بهم كما توقد بكفار الإنس، وفي هذه الآية دليل على أن الكفار من الجن يعذبون في النار، فإن قيل: كيف يعذبون بالنار وهم مخلوقون من نار ؟ فالجواب أن يقال: الجن تغيَّروا عن صفتهم الأصلية كما أن الإنس خلقوا من تراب وتغيَّروا عن صفتهم الأصلية.
﴿وأَلَّوِ استَقاموا﴾ أي لو استقام هؤلاء القاسطون ﴿على الطريقةِ﴾ أي على طريق الإسلام ﴿لأسقَيْناهُم ماءً غَدَقًا﴾ أي كثيرًا، والمعنى لوسَّعنا عليهم الرزق، وتخصيص الماء الغدق بالذّكر لأنه أصل المعاش والسعة، وقيل: نزلت هذه الآية في كفار قريش حين مُنِعَ المطرُ سبعَ سنين.
﴿لِنَفْتِنَهُم فيهِ﴾ أي لنختبرهم كيف يشكرون ما أنعم به عليهم ﴿ومَن يُعرِضْ عَن ذكرِ ربِّهِ﴾ أي القرءان ﴿يَسلُكْهُ﴾ أي يدخله ﴿عذابًا صَعَدًا﴾ أي شاقًّا شديدًا لا راحة فيه. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: "نَسْلُكهُ" بالنون، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالياء.
﴿وأنَّ المساجِدَ﴾ يعني المواضع التي بنيت لعبادة الله وتوحيده وتمجيده ﴿للهِ﴾ إضافة تشريف وتكريم أي هذه المساجد مُشرَّفة عند الله ﴿فلا تَدْعوا معَ اللهِ أحدًا﴾ أي لا تشركوا به شيئًا ولكن أفردوا له التوحيد وأخلصوا له العبادة.
﴿وأنَّهُ لمَّا قامَ عبدُ اللهِ﴾ هو محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي صلاة الفجر ويقرأ القرءان ﴿يدعُوهُ﴾ أي يعبد الله ﴿كادوا﴾ أي الجن أو الإنس ﴿يكونونَ عليهِ لِبدًا﴾ أي جمعًا كثيرًا بعضهم فوق بعض من الازدحام على النبي حرصًا على سماع القرءان، أو لما قام النبي بالدعوة كادت العرب تكون عليه ليبطلوا الحق الذي جاءهم به، قال ابن عباس: "لِبَدًا: أعوانًا" رواه البخاري.
وقرأ الأكثرون: "لِبَدًا" بكسر اللام وفتح الباء، وقرأ هشام عن ابن عامر، وابن محيصن: "لُبَدًا" بضم اللام وفتح الباء مع تخفيفها، قال الفراء: ومعنى القراءتين واحد.
﴿قُلْ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المزدحمين عليك وهم إما الجن أو الإنس المشركون منهم على اختلاف القولين في ضمير "كادوا" ﴿إنَّما أدْعُوا ربي ولا أشركُ بهِ أحدًا﴾ أي قل للناس: لم ءاتكم بأمر يُنْكَر إنما أعبد ربي وحده وليس ذلك مما يوجب إطباقكم على عداوتي ومقتي، أو قل للجن عند ازدحامهم متعجبين: ليس ما ترون من عبادة الله بأمر يتعجب منه إنما يتعجب ممن يعبد غيره.
﴿قُل إني لا أملِكُ لكُم ضَرًّا ولا رَشَدًا﴾ أي لا أقدر على إيصال خير أو شر إليكم لأن النافع والضار على الحقيقة هو الله تعالى أي أن الله هو خالق الخير والشر فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
﴿قُلْ إنِّي لن يُجيرَني من اللهِ أحدٌ﴾ أي لا يدفع عذابه أحد إن عصيته، وذلك لأن بعض الجن قالوا له: اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك ﴿ولنْ أجِدَ مِن دونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ أي لن أجد ملتجأ ألجأ إليه من دون الله.
أخرج ابن جرير عن حضرمي أنه ذُكِرَ له أن جنيًّا من الجن من أشرافهم ذا تَبَع قال: إنما يريد محمد أن يجيرَه الله وأنا أجيرُه فأنزل الله: ﴿قُل إني لن يُجيرني من الله أحدًا﴾. (جامع الطبري مجلد 14 [29/120])
﴿إلا بلاغًا مِنَ اللهِ ورِسالاتِهِ﴾ أي إني لا أملك لكم ضرًّا ولا رشدًا إلا أن أبلغكم من الله ما أمرني بتبليغكم إياه، وإلا رسالاته التي أرسلني بها إليكم، وقيل: لن يجيرني من الله أحد إن لم أبلغ رسالاته ﴿ومن يَعْصِ اللهَ ورسولهُ﴾ أي بترك الإيمان ﴿فإنَّ لهُ نارَ جهنَّمَ خالدينَ فيها أبدًا﴾ أي مخلدين في نار جهنم بالعذاب الشديد الذي لا ينقطع أبدًا، وهذه الآية رد على ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية ومَن تبعهما فإنهم كذبوا هذه الآية وقالوا إن نار جهنم تفنى وينتهي عذاب الكفار فيها والعياذ بالله.
﴿حتى إذا رَأوا﴾ يعني الكفار ﴿ما يوعدونَ﴾ من عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا ﴿فسَيَعْلَمونَ﴾ أي حينئذ عند نزول العذاب ﴿مَنْ﴾ هو ﴿أضعفُ ناصرًا﴾ أي أعوانًا ﴿وأقلُّ عَدَدًا﴾ أي سيعلم من هو أضعف ناصرًا وأقل عددًا، المؤمنون أم هم.
﴿قُلْ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك ﴿إنْ أدْري﴾ أي لا أدري ﴿أقريبٌ ما تُوعَدونَ﴾ أي أقريب ما يعدكم ربكم من العذاب وقيام الساعة ﴿أم يَجعلُ لهُ ربي أمَدًا﴾ أي غاية معلومة تطول مدتها، ومعنى الآية: لا يعلم وقتَ نزول العذاب ووقت قيام الساعة إلا الله، فهو غيب لا أعلم منه إلا ما علمنيه الله.
﴿عالمُ الغيبِ﴾ أي عالم ما غاب عن العباد ﴿فلا يُظْهِرُ﴾ أي فلا يطلع ﴿على غَيبِهِ أحدًا﴾ أي من خلقه.
﴿إلا مَن ارْتَضى مِن رسولٍ﴾ أي لكن من أرسله الله، فإلا هنا بمعنى لكن ﴿فإنَّهُ يسلُكُ﴾ أي يجعل ﴿مِن بينِ يديهِ﴾ أي يدي ذلك الرسول والمراد من أمامه ﴿ومِن خلفِهِ﴾ ذكر بعض الجهات دلالة على جميعها ﴿رَصَدًا﴾ أي حفظة وهم الملائكة يحفظونه ويحرسونه من الجن. وليست "إلا" هنا استثنائية بل هي بمعنى "لكن" نص على ذلك الزركشي وغيره.
﴿ليعلَمَ﴾ أي ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم ﴿أن قدْ أبلغوا رسالاتِ ربهم﴾ أي بلَّغ َالرسلُ قبله كما بلَّغ هو الرسالة، وقيل: ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالات ربهم.
﴿وأحاطَ﴾ أي علمُ الله عزَّ وجلَّ ﴿بما لديهم﴾ أي بما عند الرسل وما عند الملائكة ﴿وأحصى كُلَّ شيءٍ عددًا﴾ أي أحاط علمًا بعدد كل شيء فلم يخف عليه شيء منها من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحر وغيرها فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه.