تفسير سورة المزمل آية 1 إلى 14
﴿يا أيُّها الْمُزَّمِّلُ﴾ أي المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف بها، كان النبي صلى الله عليه وسلم نائمًا بالليل متزملاً في ثيابه فأُمر بالقيام للصلاة.
﴿قُمِ الليلَ﴾ أي قم للصلاة، وحَدُّ الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ﴿إلا قليلاً﴾ أي صلّ الليل كله إلا يسيرًا منه فاستثنى منه القليل لراحة الجسد.
وقد كان قيام الليل فرضًا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته ثم نُسخ ذلك فصار تطوعًا كما جاء في صحيح مسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها: باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض) عن زُرارة : أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل الله.." الحديث، وفيه أنه قال لأم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها: "أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت: ألست تقرأ ﴿يا أيها المزمل﴾ قلت: بلى، قالت: فإن الله عزَّ وجلَّ افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء حتى أنزل الله في ءاخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعًا بعد فريضة".
وأخرج الحاكم في المستدرك [2/504] عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزلت: ﴿يا أيها المزمل قمِ الليل إلا قليلاً﴾ قاموا سنة حتى ورمت أقدامهم أي من غير ضرر، فأُنزِلت: ﴿فاقرءوا ما تيسَّر منهُ﴾، وأخرج ابن جرير مثله عن ابن عباس وغيره.
﴿نِصفَهُ أو انقص منه قليلاً﴾ أي قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلاً إلى الثلث.
﴿أو زِدْ عليه﴾ أي زد على النصف إلى الثلثين، وهذا تخيير للنبي صلى الله عليه وسلم بين أن يقوم النصف بتمامه وبين الناقص منه وبين قيام الزائد عليه.
﴿ورتِّلِ القرءانَ ترتيلاً﴾ أي لا تعجل بقراءة القرءان بل اقرأه في مَهَلٍ وبيان أي بيّنه تبيينًا مع تدبر المعاني، وروى الترمذي [في سننه: كتاب فضائل القرءان: باب 18] عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقال لصاحب القرءان اقرأ وارتقِ ورتِّل كما كنت ترتِّلُ في الدنيا فإن منزلتك عند ءاخر ءاية تقرأُ بها".
﴿إنَّا سنلقي﴾ أي سننزل ﴿عليكَ قولاً﴾ أي القرءان ﴿ثقيلاً﴾ أي بما اشتمل عليه من التكاليف الشاقة كالجهاد ومداومة الأعمال الصالحة وإقامة حدود الشرع واجتناب نواهيه، وقيل: إنه كان يَثقُلُ عليه إذا أوحي إليه وهذا قول عائشة قالت: "ولقد رأيته يَنزلُ عليه في اليوم الشديد البرد فيفصِم عنه وإن جبينَه ليتفصَّد عرقًا"، رواه البخاري، وقيل: يَثقُلُ في الميزان يوم القيامة.
﴿إنَّ ناشئةَ الليلِ﴾ أي أوقاته وساعاته لأن أوقاته تنشأ أوَّلا فأوَّلا، واختلف العلماء في المراد بناشئة الليل فقيل: ما بين المغرب والعشاء، وقيل: الليل كله، وقيل: القيام بالليل بعد النوم ومن قام أول الليل قبل النوم فما قام ناشئة الليل.
﴿هيَ أشدُّ وَطئًا﴾ أي أشد على المصلي وأثقل من صلاة النهار لأن الليل جعل للنوم والراحة فكان قيامه على النفس أشدَّ وأثقلَ.
وقرأ ابن عامر وأبو عمرو: "وِطَاءً" بكسر الواو وفتح الطاء والمد، وقرأ ابن محيصن: "وَطَاءً" بفتح الواو والطاء وبالمد.
﴿وأقومُ قيلاً﴾ أي القراءة بالليل أقومُ منها بالنهار أي أشد استقامة واستمرارًا على الصواب لهدوء الأصوات وانقطاع الحركات فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه.
﴿إنَّ لكَ في النهار سَبْحًا طويلاً﴾ أي فراغًا طويلاً لنومك وراحتك وحوائجك.
﴿واذكر اسم ربك﴾ أي دُم يا محمد على ذكر ربك ليلاً ونهارًا، وذكر الله يتناول كل ما يذكر به من تسبيح وتهليل وتمجيد وتحميد وصلاة وقراءة قرءان.
﴿وتبتَّل إليه تبتيلاً﴾ أي انقطع بعبادتك إليه فإن التبتل هو الانقطاع إلى عبادة الله عزَّ وجلَّ، وقال مجاهد: "وتبتل: أَخلِص" رواه البخاري في صحيحه [كتاب التفسير: سورة المزمل].
﴿ربُّ المشرق والمغرب﴾ أي خالق المشرق والمغرب وما بينهما من العالم ﴿لا إلهَ إلا هو﴾ أي لا يستحق أحد أن يُعبد إلا الله عزَّ وجلَّ ﴿فاتَّخِذهُ وكيلاً﴾ أي فوّض جميع أمورك إليه فإنه يكفيكها وتوكل عليه.
وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: "ربُّ" بالرفع، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بالكسر.
﴿واصبر﴾ أي يا محمد ﴿على ما يقولونَ﴾ أي على ما يقوله المشركون من قومك لك وعلى أذاهم ﴿واهجرهم هجرًا جميلاً﴾ أي جانبهم واعتزلهم ولا تتعرض لهم، وكان هذا قبل الأمر بالقتال ثم أُمر بقتالهم فنسخت ءايةُ السيف (ءاية القتال) ما كان قبلها من الترك.
﴿وذرني والمكذبين﴾ أي لا تهتم بهم وكِلْهُمْ إليَّ فأنا أكفيكهم ﴿أولي النعمة﴾ يعني أهل التنعم والأموال والترفه في الدنيا ﴿ومهلهم قليلاً﴾ قالت عائشة: فلم يكن إلا اليسيرُ حتى كانت وقعة بدر.
قال ابن الجوزي: "زعم بعض المفسرين أنها منسوخة بآية السيف وليس بصحيح لأن قوله ﴿وذرني﴾ وعيد، وأَمَرَهُ بإمهالهم ليس على الإطلاق بل أمره بإمهالهم إلى حين يؤمر بقتالهم فذهب زمان الإمهال فأين وجه النسخ" اهـ.
﴿إنَّ لدينا﴾ أي عندنا للكافرين في الآخرة ﴿أنكالاً﴾ أي قيودًا عظامًا ثقالا لا تنفك، وقيل أغلالا من حديد ﴿وجحيمًا﴾ أي نارًا شديدة الإيقاد.
﴿وطعامًا ذا غُصَّةٍ﴾ أي غير سائغ يأخذ بالحلق لا هو نازل ولا هو خارج وهو الغسلين والزَّقوم والضريع، وقيل: شوك يَدخُل الحلق فلا ينزل ولا يخرج ﴿وعذابًا أليمًا﴾ أي موجعًا مؤلما. وفي هذه الآية دليل وردٌّ على من يقول إن عذاب الكفار معنويٌّ وليس حسيًّا.
﴿يومَ ترجف الأرض والجبال﴾ أي تتحرك وتضطرب بمن عليها وذلك يومَ القيامة ﴿وكانت الجبال﴾ أي وتكون الجبال بعد أن كانت صلبة ﴿كثيبًا﴾ أي رملاً مجتمعًا ﴿مهيلاً﴾ أي رخوًا لينًا بحيث إذا أخذت منه شيئًا تبعك ما بعده وانهال.