تفسير سورة الإنسان آية 15 إلى 31
﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ (15)﴾ أي يدور على هؤلاء الأبرار الخدمُ ﴿بآنيةٍ﴾ من الأواني التي يشربون فيها شرابهم وهي ﴿من فضةٍ وأكوابٍ﴾ أي الكيزان العظام التي لا ءاذان لها ولا عُرًى ﴿قَوَارِيرَاْ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)﴾ أي في صفاء القوارير وبياض الفضة، فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة ﴿قدَّروها﴾ أي الطائفون ﴿تقديرًا﴾ على قدر مراد الشاربين من غير زيادة ولا نقص.
﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا (17)﴾ أي الأبرار ﴿كأسًا﴾ أي خمرًا ولكنه ليس كخمر الدنيا ﴿كان مزاجها زنجبيلًا﴾ أي أن الكأس تمزج بالزنجبيل، وكانت العرب تستلذ من الشراب الذي يُمزج بالزنجبيل لطيب رائحته، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب.
﴿عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)﴾ أي في الجنة ﴿تُسمّى سلسبيلًا﴾ أي سهلة المساغ في الحلق وليس كزنجبيل الدنيا.
﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا (19)﴾ أي يدور على المؤمنين الأبرار ﴿ولدانٌ﴾ أي غلمان يخلقهم الله تعالى لخدمة أهل الجنة ﴿مُخَلَّدونَ﴾ أي لا يموتون ﴿إذا رأيتهم﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل الخطاب لكل مؤمن يدخل الجنة، والمعنى إذا رأيتَ هؤلاء الولدان ﴿حَسِبتهم لؤلؤًا منثورًا﴾ أي لحسنهم ونقاء بياض وجوههم وكثرتهم وانبثاثهم في مجالسهم، واللؤلؤ إذا نُثر على بساط كان أزينَ في النظر من المنظوم.
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)﴾ أي إذا رأيتَ ببصرك ونظرتَ به ﴿ثَمَّ﴾ أي الجنة ﴿رأيتَ نعيمًا ومُلكًا كبيرًا﴾ أي واسعًا، فقد ثبت في صحيح البخاري أن ءاخرَ أهل النار خروجًا منها وءاخرَ أهل الجنة دخولًا إليها له مثل الدنيا وعشرة أمثالها. أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق: باب صفة الجنة والنار.
وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم وهو راقد على حصير من جريد وقد أثَّر في جنبه، فبكى عمر، فقال له: "ما يبكيك" ؟ قال: ذكرت كسرى ومُلكه، وهرمز ومُلكه، وصاحبَ الحبشة وملكه، وأنت يا رسول الله صلى الله عليك وسلم على حصير من جريد ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن لهم الدنيا ولنا الآخرة"، فأنزل الله: ﴿وإذا رأيتَ ثَمَّ رأيت نعيمًا ومُلكًا كبيرًا﴾.
﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)﴾ أي فوقهم ﴿ثيابُ سُندس﴾ أي الثياب الرقيقة من الديباج وهو الحرير ﴿خُضرٌ﴾ جمع أخضر ﴿وإستبرق﴾ وهو ما غَلُظَ من الديباج ﴿وحُلُّوا﴾ أي أهل الجنة ﴿أساور﴾ جمع أسورة ﴿من فضة وسقاهم ربُّهم﴾ أضاف الله السقيا إليه للتشريف ﴿شرابًا طهورًا﴾ طهور صفة مبالغة في الطهارة، ومن طُهْرِه أنه لا يصير بولًا نجسًا ولكنه يصير رَشْحًا يخرج من أبدانهم كرشح المسك.
وقرأ أهل المدينة وحمزة: "عَاليْهِم" بإسكان الياء وكسر الهاء، وقرأ الباقون بفتح الياء، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو: "خُضرٌ" بالرفع "وإستبرقٍ" بالخفض، وقرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم: "خضرٍ" بالخفض "وإستبرقٌ" بالرفع، وقرأ نافع، وحفص عن عاصم: "خضرٌ وإستبرقٌ" كلاهما بالرفع، وقرأ حمزة والكسائي: "خضرٍ وإستبرقٍ" كلاهما بالخفض.
﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)﴾ أي النعيم ﴿كان لكم جزاء﴾ أي ثوابًا على ما كنتم في الدنيا تعملون من الصالحات ﴿وكان سعيكم﴾ أي عملكم ﴿مشكورًا﴾ أي مقبولًا مُثابًا.
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)﴾ أي يا محمد هذا ﴿القرءان﴾ ما افتريتَه ولا جئتَ به من عندك ولا من تلقاء نفسك كما يدعيه المشركون ﴿تنزيلًا﴾ أي نزل ءاية بعد ءاية ولم ينزل على النبي جملة واحدة وإنما أنزل عليه متفرقًا. ثم أمره الله بالصبر فقال:
﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)﴾ أي لقضاء ربك وتبليغ رسالته ﴿ولا تُطع منهم﴾ أي من المشركين ﴿ءاثمًا﴾ أي مرتكب الإثم الداعي لك إليه ﴿أو كفورًا﴾ أي الغالي في الكفر الداعي إليه، والكفور وإن كان ءاثمًا فإن فيه مبالغةً في الكفر، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يُتصور في حقه أن يطيع أحدًا منهم لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم عن مثل ذلك.
أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه بلغه أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمدًا يصلي لأطأن عنقه، فأنزل الله: ﴿ولا تطع منهم ءاثمًا أو كفورًا﴾، قال ابن الجوزي: "زعم بعضهم أنها منسوخة بآية السيف وقد تكلمنا على نظائرها وبيّنا عدم النسخ" اهـ.
﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)﴾ أي صلّ لربك ﴿بُكرة﴾ يعني صلاة الصبح ﴿وأصيلًا﴾ يعني صلاة الظهر والعصر.
﴿وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)﴾ يعني صلاة المغرب والعشاء ﴿وسبحه ليلًا طويلًا﴾ يعني صلاة التطوع بعد الصلاة المفروضة وهو التهجد بالليل.
﴿إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)﴾ يعني الكفار ﴿يحبون العاجلة﴾ أي يؤثرون الدنيا على الآخرة ﴿ويذرون﴾ أي ويَدَعُون ﴿وراءهم﴾ أي أمامهم وهو ما يستقبلون من الزمان ﴿يومًا ثقيلًا﴾ أي يومًا شديدًا وهو يوم القيامة، والمعنى أنهم يتركونه فلا يؤمنون به ولا يعملون له، واستعير الثقيل لليوم لشدته وهوله من ثقل الجرم الذي يتعب صاحبه.
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)﴾ أي من طين ﴿وشددنا﴾ أي قوينا وأحكمنا وأحسنَّا ﴿أسرهم﴾ أي خَلْقَهم، وقيل شددنا مفاصلهم وأوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب، وقيل الأسر مجرى البول والغائط وذلك أنه إذا خرج الأذى انقبضا، والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية، أي سوَّيتُ خلقك أيها الإنسان وأحكمتُه ثم أنت تكفر بي ﴿وإذا شئنا﴾ أي تبديل أمثالهم بإهلاكهم ﴿بدَّلنا أمثالهم تبديلًا﴾ ممن يطيع.
﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29)﴾ أي السورةَ أو ءايات القرءان أو جملةَ الشريعة ليس على جهة التخيير بل على جهة التحذير من اتخاذ غير سبيل الله كما قال أبو حيان في تفسيره ﴿تذكرة﴾ أي موعظة ﴿فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلًا﴾ أي طريقًا موصلًا إلى طاعته وطلب مرضاته.
﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)﴾ أي الطاعة والاستقامة واتخاذ السبيل إلى الله ﴿إلا أن يشاءَ اللهُ﴾ أي لا يحصل ذلك إلا بمشيئة الله عزَّ وجلَّ، وفي هذه الآية حجة لأهل السنة حيث قالوا إن جميع ما يصدر من العبد من خير أو شر، طاعة أو معصية، إيمان أو كفر بخلق الله ومشيئته ﴿إنَّ الله كانَ عليمًا﴾ أي عالما بأعمالكم وما يصدر منكم قبل خلقكم ﴿حكيمًا﴾ أي في أمره ونهيه لكم وفي فعله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: "وما يشاؤون" بالياء.
﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)﴾ وهم المؤمنون يُدخلهم الجنة ﴿والظالمين﴾ أي الكافرين إما بالإعراض عن الإيمان بالله أو الرسول أو بشتمهما ﴿أعدّ لهم﴾ أي في الآخرة ﴿عذابًا أليمًا﴾ أي عذابًا مؤلما موجِعًا وهو عذاب جهنم. وفي هذه الآية رد على الذين يقولون إن عذاب جهنم معنويٌّ لا حسي أي يزعمون أن ءايات الوعيد للتخويف فقط لا حقيقة لها في الآخرة وهذا إلحاد وكفر بالقرءان.