تفسير سورة الإنسان آية 1 إلى 14

﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)﴾ أي قد أتى ﴿على الإنسانِ حينٌ من الدهر﴾ قيل: الإنسان هنا هو ءادم عليه السلام، وقيل: جميع الناس، والحين الذي مر عليه هي المدة التي بقي فيها إلى أن نُفخ فيه الروح، وقيل: الإنسان هنا هو ابن ءادم، والحين الذي مر عليه إما حين عدمه وإما حين كونه نطفة وانتقاله من رتبة إلى رتبة حتى حين إمكان خطابه وسُمّي إنسانًا باعتبار ما صار إليه ﴿لم يكُنْ شيئًا مذكورًا﴾ أي لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به وذلك قبل أن ينفخ فيه الروح.

﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعَا بَصِيرًا (2)﴾ أي بني ءادم ﴿مِن نُطفة﴾ أي من مني الرجل ومني المرأة ﴿أمْشاجٍ﴾ أي أخلاط وهو وصف للنطفة والمراد ماء الرجل وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد بمشيئة الله ﴿نبتليهِ﴾ أي نختبره بالتكليف في الدنيا ﴿فجَعلناهُ سميعًا بصيرًا﴾ أي ذا سمع يسمع به وبصر يبصر به إنعامًا من الله على عباده بذلك.

﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)﴾ أي بيَّنا له وعرَّفناه طريق الهدى والضلال والخير والشر ﴿إمَّا شاكرًا﴾ أي مؤمنًا ﴿وإمَّا كَفُورًا﴾ أي كافرًا. ولما كان الشكر قلَّ من يتصف به قال "شاكرًا"، ولما كان الكفر كثُر من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان بخلاف الشكر جاء كفورًا بصيغة المبالغة. وأتبَعَ ذكرَ الفريقين الوعيدَ والوعدَ فقال عزَّ وجلَّ:

﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلًا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا (4)﴾ أي هيأنا لمن أعرض عن الإيمان بالله أو برسوله ويدخل في ذلك من سب الله أو النبي أو القرءان ونحو ذلك مما فيه استهزاء بالله والرسول والشريعة ﴿سلاسِلًا﴾ جمع سلسلة، تكون في أعناقهم يسحبون بها في النار، ﴿وأغلالًا﴾ جمع غُل أي تشد بالأغلال فيها أيديهم إلى أعناقهم، ﴿وسعيرًا﴾ أي نارًا مسعرة يعذبون بها. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة: "سلاسل" بغير تنوين.

﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)﴾ أي المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم بأداء ما فرض واجتناب ما نهى عنه ﴿يشربون من كأس﴾ أي إناء فيه شراب ﴿كان مزاجها﴾ أي كان مزاج ما فيها من الشراب ﴿كافورًا﴾ يعني في طيب رائحتها كالكافور، وقيل: إن الكافور اسمُ عين ماء في الجنة يقال له عين الكافور أي يمازجه ماء هذه العين التي تسمى كافورًا.

﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)﴾ أي كان مزاج الكأس التي يشرب بها هؤلاء الأبرار كالكافور في طيب رائحته من عين ﴿يشربُ بها﴾ أي يشربها، وقيل يشرب منها ﴿عبادُ الله﴾ المراد بعباد الله هنا المؤمنون لأن الكفار لا يتنعمون في الآخرة أبدًا ﴿يُفجرونها﴾ أي يُجرون تلك العين التي يشربون بها كيف شاءوا وحيث شاءوا من منازلهم وقصورهم ﴿تفجيرًا﴾ أي سهلًا لا يمتنع عليهم.

﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)﴾ أي لا يُخلفون إذا نذروا، وقيل: كانوا في الدنيا يوفون بالنذر والنذر الإيجاب، والمعنى يوفون بما فرض الله عليهم فيدخل فيه جميع الطاعات من الإيمان والصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغير ذلك من الواجبات ﴿ويخافون﴾ أي يحذرون ﴿يومًا﴾ أي يوم القيامة ﴿كانَ شرُّهُ مُستطيرًا﴾ أي منتشرًا فاشيًا ممتدًّا والمعنى أنهم يوفون بالنذر وهم خائفون من شر ذلك اليوم وهوله وشدته.

﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)﴾ أي حب الطعام وقلته وشهوتهم له والحاجة إليه فهم مع ذلك يُغيثون الملهوف. وقد وصف الله الأبرار بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم بالطعام ويواسون به أهل الحاجة، وقيل "على حبه" أي حب الله ابتغاء أي مرضاة الله ﴿مسكينًا﴾ وهو الذي لا مال له يكفيه لسد حاجاته ﴿ويتيمًا﴾ وهو الذي مات أبوه وهو دون البلوغ ولا شيء له ﴿وأسيرًا﴾ وهو المحبوس من الكفار. أخرج ابن المنذر عن ابن جرير في قوله: "وأسيرًا" قال: لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأسِرُ أهل الإسلام ولكنها نزلت في أُسارى أهل الشرك كانوا يأسرونهم في العذاب، فنزلت فيهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالصلاح إليهم. وقال ابن الجوزي: "فأما إطعامه ففيه ثواب بالإجماع لقوله عليه الصلاة والسلام: "في كل كَبِدٍ رطبةٍ أجرٌ" والآية محمولة على التطوع بالإطعام" اهـ.

﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا (9)﴾ أي ابتغاء مرضاته ﴿لا نُريدُ منكم جزاءً﴾ أي مكافأة ﴿ولا شُكورًا﴾ أي ولا أن تثنوا علينا بذلك، قيل إنهم لم يتكلموا به ولكن علم الله ذلك من قلوبهم بعلمه الأزلي فأثنى به عليهم، وقيل قالوا ذلك منعًا للمحتاجين من المكافأة، وقيل قالوا ذلك ليقتدي بهم غيرهم في ذلك وذلك لأن الإحسان إلى الغير تارة يكون لأجل الله تعالى لا يراد به غيره فهذا هو الإخلاص، وتارة يكون لطلب المكافأة أو لطلب الحمد من الناس أو لهما وهذان القسمان مردودان لا يقبلهما الله تعالى لأن فيهما رياء فنفَوا ذلك عنهم بقولهم: إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورًا.

﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)﴾ أي نطعمكم رجاء منا أن يؤمننا ربنا من عقوبته ﴿يومًا﴾ أي في يوم شديد هوله عظيم أمره ﴿عبوسًا﴾ أي تَعبِس فيه الوجوه من شدة مكارهه ﴿قمطريرًا﴾ أي شديدًا أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء.

﴿فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)﴾ أي دفع عنهم ﴿شرَّ ذلكَ اليوم﴾ أي بأسه وشدته وعذابه ﴿ولقَّاهم﴾ أي أعطاهم ﴿نضرةً﴾ أي حُسنًا في وجوههم ﴿وسرورًا﴾ أي فرحًا في قلوبهم.

﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)﴾ أي وأثابهم الله بما صبروا في الدنيا على طاعته والعمل بما يرضيه ﴿جنةً﴾ أي أُدخلوا الجنة ﴿وحريرًا﴾ أي أُلبسوا الحرير.

﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا (13)﴾ أي جلوسًا متمكنين، وقيل الاتكاء الاضطجاع ﴿فيها﴾ أي في الجنة ﴿على الأرائكِ﴾ أي على السُّرُرِ في الحِجال وهي بيوت تزين بالثياب والأسرة والستور ﴿لا يرون فيها﴾ أي لا يجدون وهم في الجنة ﴿شمسًا﴾ أي حر شمس ﴿ولا زمهريرًا﴾ أي ولا شدة برد.

﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)﴾ أي ظلال الأشجار في الجنة قريبة من المؤمنين الأبرار مُطلة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس ولا قمر في الجنة ﴿وذُللت﴾ أي سخرت لهم ﴿قطوفها﴾ أي ثمارها ﴿تذليلًا﴾ أي تسخيرًا، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع لا يرد أيديهم شوك ولا بُعْدٌ، إن قام أحد ارتفعت له وإن جلس تدلّت عليه وإن اضطجع دنت منه فأكل منها.