تفسير سورة عبس آية 1 إلى 16

﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)﴾ عَبَسَ أَيْ قَطَبَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، قَالَهُ الزَّبِيدِيُّ. وَتَوَلَّى: أَيْ أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ الْكَريِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ الْبُخَارِيُّ.

﴿أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى (2)﴾ قَالَ الْقَسْطَلانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرُهُ: لأَجْلِ أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْغُولٌ بِذَلِكَ، أَيْ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى الإِسْلامِ وَقَدْ قَوِيَ طَمَعُهُ فِي إِسْلامِهِمْ، وَكَانَ فِي إِسْلامِهِمْ إِسْلامُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ قَطْعَهُ لِكَلامِهِ فَعَبَسَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَأَعْرَضَ عَنْهُ فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُنَاجِيهِمْ فِي أَمْرِ الإِسْلامِ هُمْ: عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلٍ عَمْرُو بنُ هِشَامٍ، وَأُبَيُّ وَأُمَيَّةُ ابْنَا خَلَفٍ عَلَى خِلافٍ فِي بَعْضِهِمْ. وَجَاءَ لَفْظُ الأَعْمَى إِشْعَارًا بِعُذْرِهِ فِي الإِقْدَامِ عَلَى قَطْعِ كَلامِ رَسُولِ اللَّهِ لِلْقَوْمِ وَلِلدِّلالَةِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ مِنَ الرِّفْقِ بِهِ وَالصَّغْوِ لِمَا يَقْصِدُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا رَأَى ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يَبْسُطُ لَهُ رِدَاءَهُ وَيَقُولُ: « مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي » وَيَقُولُ لَهُ: « هَلْ مِنْ حَاجَةٍ »، وَاسْتَخْلَفَهُ مَرَّتَيْنِ عَلَى صَلاةِ النَّاسِ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ فِي غَزْوَتَيْنِ مِنْ غَزَوَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يُؤَذِّنُ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ بِلالٍ وَغَيْرِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)﴾ أَيْ مَا الَّذِي يَجْعَلُكَ دَارِيًا بِحَالِهِ لَعَلَّهُ يَتَطَهَّرُ مِنَ الآثَامِ بِمَا يَتَلَقَّفُ مِنْكَ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَفِيهِ إيِمَاءٌ بِأَنَّ إِعْرَاضَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لِتَزْكِيَةِ غَيْرِهِ.

﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)﴾ أَيْ أَوْ يَتَّعِظُ بِمَا يَتَعَلَّمُهُ وَيَسْمَعُهُ مِنْ مَوْعِظَتِكَ فَيَنْتَفِعُ بِذَلِكَ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ: «فَتَنْفَعَهُ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِرَفْعِهَا.

﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5)﴾ قَالَ بَعْضٌ: الْمُرَادُ مَنْ كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ وَغِنًى، قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: « وَهُوَ فَاسِدٌ هَهُنَا لأَنَّ إِقْبَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِثَرْوَتِهِمْ وَمَالِهِمْ حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَمَّا مَنْ أَثْرَى فَأَنْتَ تُقْبِلُ عَلَيْهِ »، ثُمَّ قَالَ: الْمَعْنَى مَنِ اسْتَغْنَى عَنِ الإِيـمَانِ وَالْقُرْءَانِ بِمَا لَهُ مِنَ الْمَالِ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَرِيبٌ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ الَّذِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاجِيهِمْ فِي شَأْنِ الإِسْلامِ ثُمَّ قُتِلُوا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ عَلَى الْكُفْرِ، قُتِلَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأَبُو جَهْلٍ عَمْرُو بنُ هِشَامٍ وَأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ يَوْمَ بَدْرٍ، أَمَّا أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ فَقَدْ رَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَرْبَةٍ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَتَلَهُ.

﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)﴾ أَيْ تَتَعَرَّضُ لَهُ بِالإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِوَجْهِكَ.

﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)﴾ أَيِ الْكَافِرُ وَهَذَا تَحْقِيرٌ لِشَأْنِ الْكُفَّارِ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ عَلَيْكَ بَأْسٌ فِي أَنْ لا يَتَزَكَّى بِالإِسْلامِ مَنْ تَدْعُوهُ إِلَيْهِ، إِذِ الْهُدَى بِيَدِ اللَّهِ وَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ ؛ وَبَعْدَ ذَلِكَ نَزَلَ الأَمْرُ بِالْقِتَالِ.

﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8)﴾ أَيْ يَأْتِيكَ مُسْرِعًا طَالِبًا لِلْخَيْرِ وَالْعِلْمِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمُرَادُ بِهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

﴿وَهُوَ يَخْشَى (9)﴾ أَيْ يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.

﴿فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)﴾ أَيْ تَتَشَاغَلُ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَطَلْحَةُ: «تَتَلَهَّى» بِتَاءَيْنِ.

﴿كَلَّا﴾ أَيْ لا تَفْعَلْ بَعْدَهَا مِثْلَهَا، عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً كَبِيرَةً وَلا صَغِيرَةً، وَمَنْ قَالَ هُوَ صَغِيرَةٌ فَقَدْ أَخْطَأَ. ﴿إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)﴾ أَيْ أَنَّ ءَايَاتِ الْقُرْءَانِ مَوْعِظَةٌ وَتَبْصِرَةٌ لِلْخَلْقِ.

﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)﴾ أَيْ فَمَنْ شَاءَ حَفِظَ الْقُرْءَانَ وَاتَّعَظَ بِهِ.

﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13)﴾ أَيْ أَنَّ تِلْكَ التَّذْكِرَةَ مُثْبَتَةٌ فِي هَذِهِ الصُّحُفِ الْمُكَرَّمَةِ، وَالصُّحُفُ: جَمْعُ صَحِيفَةٍ، قَالَ الرَّازِيُّ وَالنَّسَفِيُّ: إِنَّهَا صُحُفٌ مُنْتَسَخَةٌ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مُكَرَّمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ.

﴿مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14)﴾ أَيْ مَرْفُوعَةُ الْقَدْرِ مَحْفُوظَةٌ مِنَ الدَّنَسِ لا يَمَسُّهَا إِلا الْمُطَهَّرُونَ وَهُمُ الْمَلائِكَةُ.

﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)﴾ أَيْ هَذِهِ الصُّحُفُ الْمُكَرَّمَةُ الْمَرْفُوعَةُ الْمُطَهَّرَةُ بِأَيْدِي الْكَتَبَةِ مِنَ الْمَلائِكَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ.

﴿كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)﴾ أَيْ هُمْ كِرَامٌ أَعِزَّاءُ عَلَى رَبِّهِمْ بَرَرَةٌ مُطِيعُونَ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ.