تفسير سورة عبس آية 17 إلى 42
﴿قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)﴾ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُتْبَةَ بنِ أَبِي لَهَبٍ حِينَ قَالَ: كَفَرْتُ بِرَبِّ النَّجْمِ، وَمَعْنَى الآيَةِ لُعِنَ الْكَافِرُ مَا أَشَدَّ كُفْرَهُ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿قُتِلَ﴾ الدُّعَاءُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الذَّمُّ الْبَلِيغُ لأَنَّ اللَّهَ لا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الدُّعَاءُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾ ظَاهِرُهُ التَّعَجُّبُ وَهُوَ لا يَكُونُ مِنَ اللَّهِ فَالْمَعْنَى الْمُرَادُ هُوَ تَعْجِيبُ كُلِّ سَامِعٍ لأَنَّ مُبَالَغَةَ الْكُفَّارِ فِي الْكُفْرَانِ يَتَعَجَّبُ مِنْهَا كُلُّ وَاقِفٍ عَلَيْهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْكَافِرَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ: لُعِنَ مَا أَشَدَّ كُفْرَهُ ؛ وَاللَّعْنُ مَعْنَاهُ: الطَّرْدُ وَالإِبْعَادُ مِنَ الْخَيْرِ عَلَى سَبِيلِ السُّخْطِ، وَالْعَجَبُ وَالتَّعَجُّبُ حَالَةٌ تَعْرِضُ لِلإِنْسَانِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِسَبَبِ الشَّىْءِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاء: الْعَجَبُ مَا لا يُعْرَفُ سَبَبُهُ وَلِهَذَا قِيلَ: لا يَصِحُّ عَلَى اللَّهِ التَّعَجُّبُ إِذْ هُوَ عَلامُ الْغُيُوبِ لا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، قَالَهُ الرَّاغِبُ الأَصْبَهَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
﴿مِنْ أَيِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ (18)﴾ أَيْ لِمَ يَتَكَبَّرُ هَذَا الْكَافِرُ ؟ أَلَمْ يَرَ مِنْ أَيِّ شَىْءٍ خُلِقَ ؟! وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى التَّقْرِيرِ عَلَى حَقَارَةِ مَا خُلِقَ مِنْهُ.
﴿مِنْ نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَعَملِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ »، هَذَا طَرَفُ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالنُّطْفَةُ: الْمَنِيُّ الْمَخْلُوقُ مِنْهُ الْبَشَرُ، وَالْعَلَقَةُ: الْمَنِيُّ يَنْتَقِلُ بَعْدَ طَوْرِهِ فَيَصِيرُ دَمًا غَلِيظًا مُتَجَمِّدًا، ثُمَّ يَنْتَقِلُ طَوْرًا ءَاخَرَ فَيَصِيرُ لَحْمًا وَهُوَ الْمُضْغَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَنَّهَا مِقْدَارُ مَا يُمْضَغُ، قَالَهُ الْفَيُّومِيُّ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّكَبُّرَ وَالتَّجَبُّرَ لا يَلِيقَانِ بِمَنْ كَانَ أَصْلُهُ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً. وَمَعْنَى فَقَدَّرَهُ: أَيْ فَقَدَّرَهُ أَطْوَارًا إِلَى أَنْ أَتَمَّ خِلْقَتَهُ، قَدَّرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَسَائِرَ أَعْضَائِهِ، وَحَسَنًا أَوْ دَمِيمًا، وَقَصِيرًا أَوْ طَوِيلا، وَشَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا.
﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)﴾ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ سَهَّلَ لَهُ الْخُرُوجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ بِأَنْ جَعَلَ فُوَّهَةً لِلرَّحِمِ، وَأَلْهَمَهُ إِذَا قَرُبَ وَقْتُ خُرُوجِهِ أَنْ يَتَنَكَّسَ فَيَصِيرَ رَأْسُهُ مِنْ جِهَةِ الأَسْفَلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الأَعْلَى. فَسُبْحَانَ اللَّهِ الْخَالِقِ الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ، وَقِيلَ: سَهَّلَ لَهُ الْعِلْمَ بِطَرِيقِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ.
﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)﴾ أَيْ جَعَلَ لَهُ قَبْرًا يُوَارَى فِيهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِمَّا يُلْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فَتَأْكُلَهُ الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ.
﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)﴾ أَيْ أَحْيَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِلْبَعْثِ، وَوَقْتُ النُّشُورِ عِلْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
﴿كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)﴾ كَلِمَةُ «كَلا» هِيَ رَدْعٌ وَزَجْرٌ لِلْكَافِرِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ فَالْكَافِرُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالإِيـمَانِ.
﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)﴾ أَيْ فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ طَعَامَهُ وَلْيَنْظُرْ إِلَى مَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ، وَالْمُرَادُ نَظَرُ اعْتِبَارٍ وَهُوَ نَظَرُ الْقَلْبِ مُتَدَبِّرًا مُتَفَكِّرًا فِي عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)﴾ أَيِ الْغَيْثَ وَالْمَطَرَ يَنْسَكِبُ مِنَ السَّحَابِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ: «إِنَّا» بِالْكَسْرِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: «أَنَّا صَبَبْنَا» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي الْوَصْلِ وَفِي الِابْتِدَاءِ.
﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (26)﴾ أَيْ بِالنَّبَاتِ فَإِنَّهُ يَشُقُّ الأَرْضَ بِخُرُوجِهِ مِنْهَا.
﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27)﴾ ««فِيهَا أَيْ فِي الأَرْضِ يُنْبِتُ اللَّهُ جَمِيعَ الْحُبُوبِ الَّتِي يُتَغَذَّى بِهَا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ.
﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)﴾ الْعِنَبُ مَعْرُوفٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقَضْبُ: هُوَ الرُّطَبُ لأَنَّهُ يُقْضَبُ مِنَ النَّخْلِ أَيْ يُقْطَعُ.
﴿وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29)﴾ الزَّيْتُونُ وَالنَّخْلُ مَعْرُوفَانِ.
﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)﴾ أَيْ بَسَاتِينُ كَثِيرَةُ الأَشْجَارِ، وَالْحَدِيقَةُ: الْبُسْتَانُ يَكُونُ عَلَيْهِ حَائِطٌ، وَالْغُلْبُ: الْغِلاظُ الأَعْنَاقِ، وَقَالَ الزَّجَاجُ: هِيَ الْمُتَكَاثِفَةُ الْعِظَامُ، وَالْمُرَادُ عِظَمُ أَشْجَارِهَا وَكَثْرَتُهَا.
﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)﴾ أَيْ أَلْوَانُ الْفَاكِهَةِ، وَالأَبُّ: هُوَ مَا تَرْعَاهُ الْبَهَائِمُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
﴿مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)﴾ أَيْ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَبِّ وَمَا بَعْدَهُ خُلِقَ لِمَنْفَعَةِ الإِنْسَانِ وَكَذَلِكَ الأَنْعَام وَهِيَ الإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ تَنْتَفِعُ بِهِ.
﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)﴾ وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ صَيْحَةُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ الْخَلِيلُ بنُ أَحْمَدَ: الصَّاخَّةُ صَيْحَةٌ تَصُخُّ الآذَانَ صَخًّا، أَيْ تُصِمُّهَا بِشِدَّةِ وَقْعَتِهَا. وَجَوَابُ ﴿فَإِذَا﴾ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: اشْتَغَلَ كُلُّ إِنْسَانٍ بِنَفْسِهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُ.
﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)﴾ أَيْ لا يَلْتَفِتُ الإِنْسَانُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ أَقَارِبِهِ لِعِظَمِ مَا هُوَ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّاحِبَةِ الزَّوْجَةُ. وَالْمُرَادُ بِالْفِرَارِ هُنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاءِ يَفِرُّ مِنَ الآخَرِ إِنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ أَمَّا إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الْمُتَّقِينَ فَلا يَفِرُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنَ الآخَرِ.
﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)﴾ أَيْ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَالا يَشْغَلُهُ عَنِ النَّظَرِ فِي حَالِ غَيْرِهِ.
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38)﴾ أَيْ أَنَّ وُجُوهَ الصَّالِحِينَ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُشْرِقَةً مُضِيئَةً قَدْ عَلِمَتْ مَا لَهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّعِيمِ.
﴿ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39)﴾ أَيْ مَسْرُورَةٌ فَرِحَةٌ بِمَا نَالَهَا مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)﴾ أَيْ غُبَارٌ وَكَمَدٌ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ وَهِيَ وُجُوهُ الْكُفَّارِ كَمَا سَيَأْتِي.
﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)﴾ أَيْ تَغْشَاهَا ظُلْمَةٌ.
﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)﴾ وَالْكَفَرَةُ: جَمْعُ كَافِرٍ، وَالْفَجَرَةُ: جَمْعُ فَاجِرٍ.
وَعَنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ [سُورَةَ الْحَاقَّة آية 14] قَالَ: يَصِيرَان غَبَرَةً عَلَى وُجُوهِ الْكُفَّارِ لا عَلَى وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ [سُورَةَ عَبَسَ] رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.