تفسير سورة المطففين آية 1 إلى 12

قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: "أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلا فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1)﴾ فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ" اهـ.

﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1)﴾ قَالَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ: " قَالَ الأَصْمَعِيُّ: ﴿وَيْلٌ﴾ قُبْحٌ، وَمَنْ قَالَ: وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ وَيْلا فِي اللُّغَةِ هُوَ مَوْضُوعٌ لِهَذَا وَإِنَّمَا أَرَادَ مَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِيهِ فَقَدْ اسْتَحَقَّ مَقَرًّا مِنَ النَّارِ وَثَبَتَ ذَلِكَ لَهُ " اهـ. وَفِي الْحَدِيثِ: " الْوَيْلُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ ". قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمُطَفِّفُ مَأْخُوذٌ مِنَ الطَّفِيفِ وَهُوَ الْقَلِيلُ، فَالْمُطَفِّفُ هُوَ الْمُقِلُّ حَقَّ صَاحِبِهِ بِنُقْصَانِهِ عَنِ الْحَقِّ، فَالْمُطَفِّفُونَ هُمُ الَّذِينَ يَبْخَسُونَ حُقُوقَ النَّاسِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ.

﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)﴾ أَيْ أَنَّ هَؤُلاءِ الْمُطَفِّفِينَ إِذَا اكْتَالُوا مِنَ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ يَأْخُذُونَهَا وَافِيَةً.

﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)﴾ أَيْ أَنَّ هَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُطَفِّفِينَ أَنَّهُمْ إِذَا كَالُوا لِلنَّاسِ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ يُنْقِصُونَ لَهُمْ فِي الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ.

﴿أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4)﴾ قَالَ النَّسَفِيُّ: أَدْخَلَ هَمْزَةَ الاسْتِفْهَامِ عَلَى "لا" النَّافِيَةِ تَوْبِيخًا، وَفِيهِ إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ عَظِيمٌ مِنْ حَالِهِمْ فِي الاجْتِرَاءِ عَلَى التَّطْفِيفِ كَأَنَّهُمْ لا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ وَمُحَاسَبُونَ عَلَى مَا يُنْقِصُونَهُ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَالظَّنُّ هَا هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ.

﴿لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)﴾ شَأَنُهُ، أَلا وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.

﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾ فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لأمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَزَائِهِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْمُسَامَحَةَ وَالسَّتْرَ فَضْلا مِنْهُ تَعَالَى وَكَرَمًا، رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ» اهـ. وَالرَّشْحُ: الْعَرَقُ.

﴿كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)﴾ فَكَلِمَةُ ﴿كَلا﴾ فِي هَذِهِ الآيَةِ كَلِمَةُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ لَهُمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّطْفِيفِ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى حَقًّا، وَكِتَابُ الْفُجَّارِ أَيْ صَحَائِفُ أَعْمَالِهِمْ فِي سِجِّينٍ، قَالَ الزَّبِيدِيُّ فِي تَاجِ الْعَرُوسِ مَعَ الأَصْلِ : «وَسِجِّينٌ فِيهِ كِتَابُ الْفُجَّارِ»، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: وَدَوَاوِينُهُمْ كَمَا فِي الصَّحَاحِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَهُوَ فِعِّيلٌ مِنَ «السِّجْن» كَالفِسِّيقِ مِنَ «الْفِسْقِ»، وَقِيلَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8)﴾ هَذَا تَعْظِيمٌ لأمْرِ سِجِّينٍ تَخْوِيفًا مِنْهَا.

﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (9)﴾ أَيْ مَكْتُوبٌ، وَقِيلَ: مَخْتُومٌ، قَالَ النَّسَفِيُّ: هُوَ كِتَابٌ جَامِعٌ هُوَ دِيوَانُ الشَّرِّ كُتِبَتْ فِيهِ أَعْمَالُ الشَّيَاطِينِ وَالْكَفَرَةِ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ، وَفِي ذَلِكَ دِلالَةٌ عَلَى خَسَاسَةِ مَنْزِلَةِ الْكُفَّارِ وَخُبْثِ أَعْمَالِهِمْ وَتَحْقِيرِ اللَّهِ إِيَّاهَا لأنَّ هَذَا الْكِتَابَ فِي حَبْسٍ كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ الرَّازِيُّ: قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ كِتَابِ الْفُجَّارِ بِأَنَّهُ فِي سِجِّينٍ ثُمَّ فَسَرَّ سِجِّينًا بِكِتَابٍ مَرْقُومٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ كِتَابَهُمْ فِي كِتَابٍ مَرْقُومٍ فَمَا مَعْنَاهُ ؟ أَجَابَ الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ الْقَفَّالُ الْكَبِيرُ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: «قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾ لَيْسَ تَفْسِيرًا لِسِجِّينٍ بَلِ التَّقْدِيرُ: كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَإِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ كِتَابٌ مَرْقُومٌ، فَيَكُونُ هَذَا وَصْفًا لِكِتَابِ الْفُجَّارِ بِوَصْفَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي سِجِّينٍ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَرْقُومٌ، وَوَقَعَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ﴾ فِيمَا بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ مُعْتَرِضًا وَاللَّهُ أَعْلَم» اهـ.

﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)﴾ أَيْ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الْحِسَابِ سَيَلْقَوْنَ فِيهِ شِدَّةَ الْعَذَابِ.

﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)﴾ أَيْ أَنَّهُ لا يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَيْ مُتَجَاوِزٍ لِلْحَدِّ، أَثِيمٍ أَيْ كَثِيرِ الإِثْمِ بِكُفْرِهِ، وَهَذِهِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ.