تفسير سورة الانفطار آية 13 إلى 19

﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)﴾ البِرُّ: بِالْكَسْرِ هُوَ الْخَيْرُ وَالْفَضْلُ، وَالأَبْرَارُ: جَمْعُ الْبَارِّ. قَالَ الرَّاغِبُ: فَيُقَالُ بَرَّ الْعَبْدُ رَبَّهُ أَيْ تَوَسَّعَ فِي طَاعَتِهِ فَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى الثَّوَابُ وَمِنَ الْعَبْدِ الطَّاعَةُ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ فِي الاعْتِقَادِ وَضَرْبٌ فِي الأَعْمَالِ، وَقَدِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَءَاتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة آية 177] فَإِنَّ الآيَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلاعْتِقَادِ وَالأَعْمَالِ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، فَالْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ الْمُتَّقُونَ يَكُونُ تَنَعُّمُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالطَّاعَةِ وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالْقَنَاعَةِ وَفِي الآخِرَةِ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ.

﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)﴾ الْفُجَّارُ: جَمْعُ فَاجِرٍ، وَالْمَصْدَرُ الْفُجُورُ، وَهُوَ شَقُّ سِتْرِ الدِّيَانَةِ، قَالَهُ الرَّاغِبُ. وَالْمُرَادُ أَنَّ الْكُفَّارَ جَحِيمُهُمْ فِي النَّارِ الْمُحْرِقَةِ عِقَابًا لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.

 ﴿يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15)﴾ أَيْ يَدْخُلُونَ الْجَحِيمَ فَيُقَاسُونَ شِدَّةَ حَرِّهَا وَلَهِيبِهَا يَوْمَ الدِّينِ أَيْ يَوْمَ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَمَلِ.

﴿وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)﴾ وَالْمُرَادُ: أَنَّ الْكُفَّارَ لا يَغِيبُونَ عَنِ النَّارِ فَيَتَحَقَّقُ الْوَعِيدُ وَيَخْلُدُونَ فِي جَهَنَّمَ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ، وَالْمَعْنَى: يَدْخُلُونَهَا فَلا يَخْرُجُونَ مِنْهَا.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)﴾ قَالَ الرَّازِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ خِطَابٌ لِلْكَافِرِ عَلَى وَجْهِ الزَّجْرِ لَهُ، وَقَالَ الأَكْثَرُونَ: إِنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ. وَالْمُرَادُ بِيَوْمِ الدِّينِ: يَوْمُ الْجَزَاءِ، وَكُرِّرَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ وَتَعْجِيبًا، أَيْ بِمَا هُوَ كُنْهُ أَمْرِهِ بِحَيْثُ لا تُدْرِكُهُ دِرَايَةُ دَارٍ، قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ.

﴿يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)﴾ أَيْ يَوْمَ لا يَمْلِكُ مَخْلُوقٌ لِمَخْلُوقٍ نَفْعًا إِلا الشَّفَاعَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ فَلا تَمْلِكُ نَفْسٌ كَافِرَةٌ لِنَفْسٍ كَافِرَةٍ شَيْئًا مِنَ الْمَنْفَعَةِ، وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ لا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِالْوُجُودِ وَالْبَقَاءِ وَصِفَاتُهُ تَعَالَى أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ بِأَزَلِيَّةِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسِ وَأَبَدِيَّتِهِ، فَاللَّهُ مُتَنَزِّهٌ عَنِ التَّغَيُّرِ لأَنَّ التَّغَيُّرَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ صِفَةُ الْمَخْلُوقِ فَالتَّفَاوُتُ عَائِدٌ إِلَى أَحْوَالِ النَّاظِرِ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ، مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبَالِكَ فَاللَّهُ بِخِلافِ ذَلِكَ أَيْ لا يُشْبِهُ ذَلِكَ، قَالَهُ الإِمَامُ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: «يَوْمُ» بِالرَّفْعِ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ رَفَعَ «يَوْم» فَعَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ الدِّينِ﴾، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ بِإِضْمَارِ «هُوَ»، وَنَصْبُهُ عَلَى مَعْنَى: «هَذِهِ الأَشْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ تَكُونُ».