تفسير سورة المطففين آية 16 إلى 36
وَنَعُودُ إِلَى مَا كُنَّا بِصَدَدِهِ إِذْ أَطَلْنَا لِلْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ، فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ (16)﴾ أَيْ أَنَّهُمْ بَعْدَ حَجْبِهِمْ عَنِ اللَّهِ يَدْخُلُونَ النَّارَ الْمُحْرِقَةَ.
﴿ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)﴾ فَقَوْلُهُ ﴿ثُمَّ﴾ أَيْ أَنَّ خَزَنَةَ النَّارِ يَقُولُونَ لِلْكُفَّارِ هَذَا أَيِ الْعَذَابُ ﴿الَّذِي كُنْتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا.
﴿كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)﴾ قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْفُجَّارِ الْمُطَفِّفِينَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ حَالِ الأَبْرَارِ الَّذِينَ لا يُطَفِّفُونَ فَقَالَ ﴿كَلا (18)﴾ أَيْ لَيْسَ الأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمَهُ أُولَئِكَ الْفُجَّارُ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَمِنْ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ" اهـ. ثُمَّ أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَيْنَ مَحَلُّ كِتَابِ الأَبْرَارِ فَقَالَ ﴿إنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ (18)﴾ أَيْ مَا كُتِبَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ ﴿لَفِي عِلّيِّينَ (18)﴾ لَفِي عِلّيِّينَ أَيْ فِي الْجَنَّةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَفِيهَا أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)﴾ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: « أَيْ مَا الَّذِي أَعْلَمَكَ يَا مُحَمَّدُ أَيُّ شَىْءٍ عِلِّيُّونَ ؟ عَلَى جِهَةِ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ » اهـ.
﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)﴾ أَيْ مَخْتُومٌ، فَكِتَابُ الأَبْرَارِ لا يُنْسَى وَلا يُمْحَى، وَقَوْلُهُ ﴿يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ أَيْ أَنَّ الْمَلائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ يَحْضُرُونَ ذَلِكَ الْكِتَابَ إِذَا صُعِدَ بِهِ إِلَى عِلِّيِّينَ كَرَامَةً لِلْمُؤْمِنِ.
﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)﴾ أَيْ أَنَّ أَهْلَ الطَّاعَةِ وَالصِّدْقِ فِي الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ.
﴿عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23)﴾ قَالَ السَّمِينُ الْحَلَبِيُّ: « قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿عَلَى الأَرَائِكِ)﴾ هُوَ جَمْعُ أَرِيكَةٍ وَالأَرِيكَةُ كُلُّ مَا اتُّكِئَ عَلَيْهِ » اهـ. وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى مَا أُعْطُوا مِنَ النَّعِيمِ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: « أَثْبَتَ النَّظَرَ وَلَمْ يُبَيِّنِ الْمَنْظُورَ إِلَيْهِ لأخْتِلافِهِمْ فِي أَحْوَالِهِمْ.»
﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)﴾ قاَلَ الْفَرَّاءُ: « النَّضْرَةُ بَرِيقُ النَّعِيمِ وَنَدَاهُ »، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ لِمَا تَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُسْنِ وَالنُّورِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ: «تُعْرَفُ» بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، «نَضْرَة»ُ بِالرَّفْعِ.
﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25)﴾ أَيْ أَنَّ أَهْلَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ، أَيْ خَمْرٍ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَهِيَ مِنَ الْخَمْرِ أَصْفَاهُ وَأَجْوَدُهُ، قَالَهُ الْخَلِيلُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: "الرَّحِيقُ" عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ مَشُوبَةٌ بِالْمِسْكِ، وَقِيلَ: الشَّرَابُ الَّذِي لا غَشَّ فِيهِ، ﴿مَّخْتُومٍ (25)﴾ أَيْ عَلَى إِنَائِهِ ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ (26)﴾ وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: "خَاتَمُهُ" بِخَاءٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَبَعْدَهَا تَاءٌ مَفْتُوحَةٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْخَتْمَ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ الإِنَاءُ مِسْكٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَرَأَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وَعُرْوَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: "خَتَمُهُ" بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالتَّاءِ وَبِضَمِّ الْمِيمِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ.
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾ أَيْ فِيمَا وُصِفَ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّعِيمِ فَلْيَرْغَبِ الرَّاغِبُونَ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ.
﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)﴾ أَيْ أَنَّ مَا يُمْزَجُ بِهِ ذَلِكَ الرَّحِيقُ مِنْ تَسْنِيمٍ وَهُوَ عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ رَفِيعَةُ الْقَدْرِ وَقِيلَ: التَّسْنِيمُ: الْمَاءُ، وَفُسِّرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى﴿ ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)﴾ وَ ﴿عَيْنًا (28)﴾ مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلِ أَمْدَحُ مُقَدَّرًا، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: « يَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا وَيُمْزَجُ لِلأَبْرَارِ »، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: «الأَبْرَارُ» هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَالْمُقَرَّبُونَ هُمُ السَّابِقُونَ، وَقِيلَ: يَشْرَبُ بِهَا - أَيْ يَتَلَذَّذُ بِهَا ـ الْمُقَرَّبُونَ وَهُمْ أَفْضَلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ (29)﴾ قَوْلُهُ ﴿أَجْرَمُوا (29)﴾ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيُّ: أَشْرَكُوا، ﴿كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا (29)﴾ يَعْنِي أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ مِثْلَ عَمَّارِ بنِ يَاسِرٍ الطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ وَبِلالٍ وَخَبَّاب وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ﴿يَضْحَكُونَ (29)﴾ أَيْ عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ وَالاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ.
﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)﴾ أَيْ إِذَا مَرَّ الْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ أَيِ بِالْكُفَّارِ يَتَغَامَزُونَ أَيْ يُشِيرُونَ أَيِ الْكُفَّارُ بِالْجَفْنِ وَالْحَاجِبِ اسْتِهْزَاءً بِالْمُؤْمِنِينَ.
﴿وَإِذَا انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31)﴾ يَعْنِي إِذَا رَجَعَ الْكُفَّارُ إِلَى أَهْلِهِمْ رَجَعُوا يَتَفَكَّهُونَ مُتَلَذِّذِينَ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالضَّحِكِ مِنْهُمْ. وَفِي قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ «فَكِهِينَ» بِغَيْرِ أَلِفٍ.
﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ (32)﴾ أَيْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقُولُونَ إِذَا رَأَوِا الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَّالُونَ لإِيـمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)﴾ يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يُوَكَّلُوا بِحِفْظِ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ.
﴿فَالْيَوْمَ (34)﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)﴾ أَيْ أَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ مِنَ الْكُفَّارِ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَمَا ضَحِكَ الْكُفَّارُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا.
﴿عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35)﴾ أَيْ فِي الْجَنَّةِ ﴿يَنْظُرُونَ (35)﴾ إِلَى عَذَابِ الْكُفَّارِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْهَوَانِ وَالْعَذَابِ بَعْدَ الْعِزَّةِ وَالنَّعِيمِ.
﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)﴾ أَيْ هَلْ جُوزِيَ الْكُفَّارُ وَأُثِيبُوا عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا ؟ وَيَكُونُ الْجَوَابُ: أَنْ نَعَمْ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا الاسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ.