تفسير سورة الانشقاق آية 1 إلى 15
﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1)﴾ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: هَذَا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: ﴿إِذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: انْشَقَّتْ أَيْ تَتَصَدَّعُ بِالْغَمَامِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهَا: تَتَشَقَّقُ السَّمَاءُ عَنِ الْغَمَامِ وَهُوَ الْغَيْمُ الأَبْيَضُ وَتَنْزِلُ الْمَلائِكَةُ فِي الْغَمَامِ.
﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)﴾ أَيِ اسْتَمَعَتْ وَانْقَادَتْ لِتَأْثِيرِ قُدْرَةِ اللَّهِ انْقِيَادَ الْمِطْوَاعِ الَّذِي يُذْعِنُ لِلأَمْرِ إِذَا أُمِرَ بِهِ، وَقَوْلُهُ ﴿وَحُقَّتْ﴾ أَيْ حُقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ رَبَّهَا الَّذِي خَلَقَهَا، وَمَعْنَاهُ جُعِلَتْ حَقِيقَةً بِالاسْتِمَاعِ وَالِانْقِيَادِ أَيْ جَدِيرَةً بِذَلِكَ.
﴿وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ (3)﴾ أَيْ أَرْضُ الْقِيَامَةِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُمَدُّ مَدَّ الأَديِمِ وَيُزَادُ فِي سَعَتِهَا، قَالَ الإِمَامُ الْقُشَيْرِيُّ: "بُسِطَتْ بِانْدِكَاكِ ءَاكَامِهَا وَجِبَالِهَا حَتَّى صَارَتْ مَلْسَاء".
﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)﴾ رَوَى الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى وَتَخَلَّتْ عَنْهُمْ فَلَمْ يَبْقَ فِي بَاطِنِهَا شَىْءٌ".
﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)﴾ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا أَطَاعَتْ فِي إِلْقَاءِ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْمَوْتَى وَتَخَلِّيهَا عَنْهُمْ.
﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ (6)﴾ قاَلَ النَّسَفِيُّ: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ﴾ خِطَابٌ لِلْجِنْسِ، أَيْ يَا ابْنَ ءَادَمَ إِنَّكَ كَادِحٌ أَيْ جَاهِدٌ فِي عَمَلِكَ سَاعٍ إِلَى رَبِّكَ أَيْ إِلَى لِقَاءِ رَبِّكَ قَالَهُ الْعِزُّ ابْنُ عَبْدِ السَّلامِ، وَقَوْلُهُ ﴿كَدْحًا﴾ قَالَ الرَّاغِبُ: "الْكَدْحُ: السَّعْيُّ وَالْعَنَاء"، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: "الْعَمَلُ وَالْكَسْبُ"، وَقَوْلُهُ ﴿فَمُلاقِيهِ﴾ أَيْ فَمُلاقٍ جَزَاءَ عَمَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْخَيْرِ خَيْرًا وَبِالشَّرِّ شَرًّا، قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ.
﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)﴾ قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: "وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الْمُحْسِنُ يُعْطَى كِتَابَ عَمَلِهِ بِيَمِينِهِ"، قَالَ الْحَافِظُ: "وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمِ: "مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَذَاكَ الَّذِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ فَذَاكَ الَّذِي يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ثُمَّ يُدْخَلُ الْجَنَّة، وَمَنْ زَادَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَذَاكَ الَّذِي أَوْبَقَ نَفْسَهُ وَإِنَّمَا الشَّفَاعَةُ فِي مِثْلِهِ".
﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)﴾ وَالْحِسَابُ الْيَسِيرُ هُوَ الْحِسَابُ السَّهْلُ الْهَيِّنُ، وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الْحِسَابَ الْيَسِيرَ فَقَالَ: "أَنْ يَنْظُرَ فِي سَيِّئَاتِهِ وَيَتَجَاوَزَ لَهُ عَنْهَا"، قَالَ الْحَاكِمُ: "صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ". وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلا هَلَكَ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)﴾ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلا عُذِّبَ" اهـ. قَالَ الْحَافِظُ: "قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: "إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ" أَنَّ الْحِسَابَ الْمَذْكُورَ فِي الآيَةِ إِنَّمَا هُوَ أَنْ تُعْرَضَ أَعْمَالُ الْمُؤْمِنِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْرِفَ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي سَتْرِهَا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَفِي عَفْوِهِ عَنْهَا فِي الآخِرَةِ" اهـ.
﴿وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)﴾ يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَالآدَمِيَّاتِ ﴿مَسْرُورًا﴾ مُغْتَبِطًا بِمَا أُوتِيَ مِنَ الْكَرَامَةِ.
﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11)﴾ قَوْلُهُ ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)﴾ الْمُرَادُ الْكَافِرُ تُغَلُّ يَدُهُ الْيُمْنَى إِلَى عُنُقِهِ وَتُجْعَلُ يَدُهُ الْيُسْرَى وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَيُؤْتَى كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَقَوْلُهُ ﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11)﴾ أَيْ أَنَّهُ حِينَ يَرَى مَا هُوَ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْعَذَابِ يُنَادِي بِالثُّبُورِ وَهُوَ الْهَلاكُ فَيَقُولَ يَا وَيْلاهُ يَا ثُبُورَاهُ.
﴿وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)﴾ أَيْ يَدْخُلُ النَّارَ الشَّدِيدَةَ فَيَصْلَى بِحَرِّهَا أَيْ يَحْتَرِقُ بِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ: "وَيُصَلَّى"، بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ اللامِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ "وَيَصْلَى" بِفَتْحِ الْيَاءِ خَفِيفَةً، إلا أَنَّ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ يُمِيلانِهَا.
﴿إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)﴾ أَيْ أَنَّ هَذَا الْكَافِرَ كَانَ فِي عَشِيرَتِهِ فِي الدُّنْيَا مَسْرُورًا بَطِرًا بِالْمَالِ وَالْجَاهِ فَارِغًا عَنِ الآخِرَةِ.
﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَّنْ يَحُورَ (14)﴾ أَيْ أَنَّ الْكَافِرَ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَنْ يَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ لأَنَّهُ مُكَذِّبٌ بِالْبَعْثِ وَهَذِهِ صِفَةُ الْكَافِرِ.
﴿بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ: "بَلَى لَيَحُورَنَّ"، ﴿إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)﴾ أَيْ عَالِمًا بِرُجُوعِهِ إِلَيْهِ وَبَصِيرًا بِهِ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ.