تفسير سورة البروج آية 10 إلى 22
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا (10) ﴾، ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ أَيْ أَحْرَقُوهُمْ وَعَذَّبُوهُمْ ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾، ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ مِنْ شِرْكِهِمْ وَفِعْلِهِمْ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾ أَيْ بِكُفْرِهِمْ ﴿وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ بِمَا أَحْرَقُوا الْمُؤْمِنِينَ، وَكِلا الْعَذَابَيْنِ فِي جَهَنَّمَ عِنْدَ الأَكْثَرِينَ، وَقَالَ الْبَعْضُ: عَذَابُ الْحَرِيقِ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ خَرَجَتِ النَّارُ فَأَحْرَقَتْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْفَرَّاءِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)﴾ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الآيَةِ الْعُمُومُ وَالْمُرَادُ بِالْفَوْزِ الْكَبِيرِ الْجَنَّةُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فَازُوا مِنْ عَذَابِ الْكُفَّارِ وَعَذَابِ الآخِرَةِ فَأَكْبِرْ بِهِ فَوْزًا، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ إِنَّ النَّارَ لَمْ تُحْرِقْهُمْ إِنَّمَا أَحْرَقَتِ الْكُفَّارَ الَّذِينَ حَضَرُوا، أَيْ الْمَلِكَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ.
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَخْذَهُ بِالْعَذَابِ إِذَا أَخَذَ الظَّلَمَةَ وَالْجَبَابِرَةَ لشَدِيدٌ.
﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)﴾ أَيْ هُوَ خَلَقَهُمْ ابْتِدَاءً ثُمَّ يُعِيدُهُمْ بَعْدَ أَنْ صَيَّرَهُمْ تُرَابًا.
﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)﴾ وَلَمَّا ذَكَرَ شِدَّةَ بَطْشِهِ ذَكَرَ كَوْنَهُ غَفُورًا سَاتِرًا لِذُنُوبِ عِبَادِهِ وَدُودًا لَطِيفًا بِهِمْ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ.
﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: ﴿الْمَجِيدِ﴾ بِالْخَفْضِ عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ الْعَرْشِ، وَغَيْرُهُمْ بِالضَّمِّ عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ عَظِيمٌ تَامُّ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَقَدْ خَصَّصَ اللَّهُ الْعَرْشَ بِأَنْ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ حَيْثُ الْحَجْمُ وَاللَّهُ مَالِكُهُ وَقَاهِرُهُ وَحَافِظُهُ وَهُوَ تَعَالَى قَاهِرٌ لِمَا دُونَ الْعَرْشِ بِالأَوْلَى كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [سُورَةَ التَّوْبَة آية 129] وَلا يَجُوزُ أَنَّ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ تَخْصِيصَ اللَّهِ لِلْعَرْشِ بِالذِّكْرِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ كَمَا فَهِمَ بَعْضُ الْمُشَبِّهَةِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سُورَةَ طَه آية 5] بَلْ إِنَّ اعْتِقَادَ السَّلَفِ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ أَخْذًا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى آية 11].
وَقَدْ قَالَ الإِمَامُ الْبَيْهَقِيُّ الْحَافِظُ الشَّهِيرُ فِي كِتَابِهِ الاعْتِقَادِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: "يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اسْتِوَاءَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ بِاسْتِوَاءِ اعْتِدَالٍ عَنِ اعْوِجَاجٍ وَلا اسْتِقْرَارٍ فِي مَكَانٍ وَلا مُمَاسَّةٍ لِشَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، لَكِنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ بِلا كَيْفٍ بِلا أَيْنٍ، بَائِنٌ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَأَنَّ إِتْيَانَهُ لَيْسَ بِإِتْيَانٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَأَنَّ مَجِيئَهُ لَيْسَ بِحَرَكَةٍ، وَأَنَّ نُزُولَهُ لَيْسَ بِنُقْلَةٍ، وَأَنَّ نَفْسَهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَأَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِصُورَةٍ، وَأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِجَارِحَةٍ، وَأَنَّ عَيْنَهُ لَيْسَتْ بِحَدَقَةٍ، وَإِنَّمَا هَذِهِ أَوْصَافٌ جَاءَ بِهَا التَّوْقِيفُ فَقُلْنَا بِهَا وَنَفَيْنَا عَنْهَا التَّكْيِيفَ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى آية 11]، وَقَالَ: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سُورَةَ الإِخْلاص آية 4]، وَقَالَ: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [سُورَةَ مَرْيَم آية 65] " ثُمَّ رَوَى رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ الأَوْزَاعِيَّ وَمَالِكًا وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَاللَّيْثَ بنَ سَعْدٍ سُئِلُوا عَنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ يَعْنِي حَدِيثَ النُّزُولِ وَمَا أَشْبَهَهُ، فَقَالُوا: "أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفِيَّةٍ"، وَقَالَ: "إِنَّ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِالْكَيْفِ اقْتَضَى ذَلِكَ تَشْبِيهَ اللَّهِ بِخَلْقِهِ فِي أَوْصَافِ الْحَدَثِ". انْتَهَى كَلامُ الْبَيْهَقِيِّ وَهُوَ نَفِيسٌ. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ الاسْتِوَاءَ بِالاسْتِيلاءِ وَالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ.
﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)﴾ لا يُعْجِزُهُ شَىْءٌ.
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17)﴾ أَيْ قَدْ أَتَاكَ يَا مُحَمَّدُ خَبَرُ الْجُمُوعِ الطَّاغِيَةِ فِي الأُمَمِ الْخَالِيَةِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ فَكَذَلِكَ يَحِلُّ بِكُفَّارِ قُرَيْشٍ مِنَ الْعَذَابِ مِثْلُ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ الْجُنُودِ، وَهُمُ الْجُمُوعُ الَّذِينَ أَعَدُّوا لِقِتَالِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ هُمْ فَقَالَ ﴿فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)﴾ فَهَذَا بَدَلٌ مِنَ الْجُنُودِ.
﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)﴾ أَيْ مُشْرِكُو مَكَّةَ فِي تَكْذِيبِهِمْ لَكَ وَلِلْقُرْءَانِ فَهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ.
﴿وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ (20)﴾ أَيْ أَنَّهُ لا يَخْفَى عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ شَىْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.
﴿بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ (21)﴾ أَيْ كَريِمٌ لأَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِشِعْرٍ وَلا كَهَانَةٍ وَلا سِحْرٍ.
﴿فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)﴾ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ مِنْهُ نُسِخَ الْقُرْءَانُ وَسَائِرُ الْكُتُبِ، فَهُوَ مَحْفُوظٌ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: "مَحْفُوظٌ" رَفْعًا عَلَى نَعْتِ ﴿قُرْءَان﴾، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَيِ الْقُرْءَانَ مَحْفُوظٌ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْجَرِّ نَعْتًا لِلَوْحٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ هَلْ هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ أَوْ تَحْتَهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَم.