تفسير سورة البروج آية 1 إلى 9
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)﴾ هَذَا قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَقَالَ الإِمَامُ يَحْيَى بنُ سَلامٍ الْبِصْرِيُّ: ﴿ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ أَيْ ذَاتِ الْمَنَازِلِ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا، وَهِيَ مَنَازِلُ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، يَسِيرُ الْقَمَرُ فِي كُلِّ بُرْجٍ مِنْهَا يَوْمَيْنِ وَثُلُثَ يَوْمٍ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرِونَ يَوْمًا ثُمَّ يَسْتَتِرُ لَيْلَتَيْنِ، وَتَسِيرُ الشَّمْسُ فِي كُلِّ بُرْجٍ مِنْهَا شَهْرًا وَهِيَ: الْحَمَلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ، وَالسَّرَطَانُ، وَالأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ، وَالْحُوتُ. وَالْبُرُوجُ فِي كَلامِ الْعَرَبِ: الْقُصُورُ، قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء آية 78]. وَمَنَازِلُ الْقَمَرِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلا وَهِيَ: الشَّرَطَانُ، وَالبُطَيْنُ، وَالثُّرَيَّا، وَالدَّبَرَانُ، وَالْهَقْعَةُ، وَالْهَنْعَةُ، وَالذِّرَاعُ، وَالنَّثْرَةُ، وَالطَّرْفُ، وَالْجَبْهَةُ، وَالزُّبْرَةُ، وَالصَّرْفَةُ، وَالْعَوَّاءُ، وَالسَّمَاكُ، وَالْغَفْرُ، وَالْزُّبَانَى، وَالإِكْلِيلُ، وَالْقَلْبُ، وَالْشَّوْلَةُ، وَالنَّعَائِمُ، وَالْبَلْدَةُ، وَسَعْدُ الذَّابِحِ، وَسَعْدُ بُلَعَ، وَسَعْدُ السُّعُودِ، وَسَعْدُ الأَخْبِيَةِ، وَالْفَرْعُ الْمُقَدَّمُ، وَالْفَرْعُ الْمُؤَخَّرُ، وَبَطْنُ الْحُوتِ.
﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)﴾ أَيِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَهُوَ قَسَمٌ ءَاخَرُ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةُ إِجْمَاعًا.
﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)﴾ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ جُبَيْرٍ: الشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، فَعَلَى هَذَا سُمِّيَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ شَاهِدًا لأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى كُلِّ عَامِلٍ بِمَا عَمِلَ فِيهِ، وَسُمِّيَ يَوْمُ عَرَفَةَ مَشْهُودًا لانَّ النَّاسَ يَشْهَدُونَ فِيهِ مَوْسِمَ الْحَجِّ وَتَشْهَدُهُ الْمَلائِكَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ: الشَّاهِدُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْمُبَرِّدُ: وَجَوَابُ الْقَسَمِ ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾ وَمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضٌ مُؤَكِّدٌ لِلْقَسَمِ.
﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ (4)﴾ أَيْ لُعِنُوا، وَالأُخْدُودُ شَقٌّ يُشَقُّ فِي الأَرْضِ وَالْجَمْعُ أَخَادِيد، وَهَؤُلاءِ قَوْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ خَدُّوا أُخْدُودًا فِي الأَرْضِ وَسَجَّرُوهُ نَارًا وَعَرَضُوا الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهَا فَمَنْ رَجَعَ عَنِ الإِسْلامِ تَرَكُوهُ وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى الإِيـمَانِ أَحْرَقُوهُ، وَأَصْحَابُ الأُخْدُودِ هُمُ الْمُحْرِقُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ مَلِكٌ خَدَّ لِقَوْمٍ أَخَادِيدَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ جَمَعَ فِيهَا الْحَطَبَ وَأَلْهَبَ فِيهَا النِّيرَانَ فَأَحْرَقَ بِهَا قَوْمَهُ، وَقَعَدَ الَّذِينَ حَفَرُوهَا حَوْلَهَا فَرَفَعَ اللَّهُ النَّارَ إِلَى الْكَفَرَةِ الَّذِينَ حَفَرُوهَا فَأَحْرَقَتْهُمْ وَنَجَا مِنْهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ (10)﴾ أَيْ فِي الآخِرَةِ ﴿وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا، وَيُقَالُ: إِنَّهَا أَحْرَقَتْ مَنْ فِيهَا وَنَجَا الَّذِينَ فَوْقَهَا، وَقَرِيبًا مِنْ قَوْلِ الْفَرَّاءِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَصْحَابِ الأُخْدُودِ أَقْوَالا فَوْقَ الْعَشَرَةِ، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ قَالَ: "رَوَى الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ: كَانَ الْمَجُوسُ أَهْلَ كِتَابٍ يَقْرَءُونَهُ وَعِلْمٍ يَدْرُسُونَهُ فَشَرِبَ أَمِيرُهُمُ الْخَمْرَ فَوَقَعَ عَلَى أُخْتِهِ فَلَمَّا أَصْبَحَ دَعَا أَهْلَ الطَّمَعِ فَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ: إِنَّ ءَادَمَ كَانَ يُنْكِحُ أَوْلادَهُ بَنَاتَهُ فَأَطَاعُوهُ وَقَتَلَ مَنْ خَالَفَهُ". ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: "رَوَى عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبُرُوجِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ بنِ أَبْزَى: "لَمَّا هَزَمَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ فَارِس قَالَ عُمَرُ: اجْتَمِعُوا، فَقَالَ: إِنَّ الْمَجُوسَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ فَنَضَعَ عَلَيْهِمْ، وَلا مِنْ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ فَنُجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَهُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: بَلْ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ" فَذَكَرَ نَحْوَهُ لَكِنْ قَالَ وَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ"، وَقَالَ فِي ءَاخِرِهِ: "فَوَضَعَ الأُخْدُودَ لِمَنْ خَالَفَهُ".
﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)﴾ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذَا بَدَلٌ مِنَ الأُخْدُودِ كَأَنَّهُ قَالَ: قُتِلَ أَصْحَابُ النَّارِ، قَالَ الرَّاغِبُ: "الْوَقُودُ يُقَالُ لِلْحَطَبِ الْمَجْعُولِ لِلْوُقُودِ وَلِمَا حَصَلَ مِنَ اللَّهَبِ".
﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)﴾ أَيْ عِنْدَ النَّارِ وَكَانَ الْمَلِكُ وَأَصْحَابُهُ جُلُوسًا عَلَى الْكَرَاسِيِّ عِنْدَ الأُخْدُودِ يَعْرِضُونَ الْكُفْرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ أَبَى أَلْقَوْهُ.
﴿وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)﴾ أَيْ حُضُورٌ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الآيَاتِ بِقِصَّةِ قَوْمٍ بَلَغَ مِنْ إِيـمَانِهِمْ وَيَقِينِهِمْ أَنْ صَبَرُوا عَلَى التَّحْرِيقِ بِالنَّارِ وَلَمْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ.
﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)﴾ أَيْ مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ إلا لإِيـمَانِهِمْ بِاللَّهِ، ﴿الْعَزِيزِ (8)﴾ الْغَالِب و ﴿الْحَمِيدِ (8)﴾ الْمَحْمُودُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ (9)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ واَلأَرْضَ وَهُوَ الْمَالِكُ لَهُمَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مَا صَنَعُوا، فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى مَا فَعَلُوا.