تفسير سورة الغاشية آية 17 إلى 26

﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ﴾ أَيْ نَظَرَ اعْتِبَارٍ وَالْمُرَادُ بِهِ كُفَّارُ مَكَّةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ الْمُرَادُ بِهَا الْجِمَالُ، وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ الإِبِلَ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا لأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَرَوْا بَهِيمَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا وَلأَنَّهَا كَانَتْ أَنْفَسَ أَمْوَالِهِمْ وَلأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا مَا تَفَرَّقَ مِنَ الْمَنَافِعِ فِي غَيْرِهَا مِنْ أَكْلِ لَحْمِهَا، وَشُرْبِ لَبَنِهَا، وَالْحَمْلِ عَلَيْهَا، وَالتَّنَقُّلِ عَلَيْهَا إِلَى الْبِلادِ الشَّاسِعَةِ، وَعَيْشِهَا بِأَيِّ نَبَاتٍ أَكَلَتْهُ، وَتَحْتَمِلُ الْعَطَشَ إِلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، وَطَوَاعِيَّتِهَا لِمَنْ يَقُودُهَا وَلَوْ لِلصَّبِيِّ الصَّغِيرِ مَعَ كَوْنِهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ عَلَى الْعَمَلِ، وَتَنْهَضُ بَعْدَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا الأَحْمَالُ الثِّقَالُ وَهِيَ جَالِسَةٌ، وَتَتَأَثَّرُ بِالصَّوْتِ الْحَسَنِ، وَكَثِيرٌ حَنِينُهَا وَقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الثِّقَاتِ أَنَّهُ سَمِعَ بِحَنِينِ الْجَمَلِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُكَائِهِ بِحَضْرَتِهِ فَجَرَّبَ ذَلِكَ بِأَنْ مَدَحَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْبَهَا فَصَارَتِ الدُّمُوعُ الْغِلاظُ تَنْهَمِرُ مِنْ عُيُونِهَا، وَلَقَدْ صَدَقَ الْحَسَنُ البِصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ رَوَى عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدِيثَ حَنِينِ الْجِذْعِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِلَيْهِ فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ عَنِ الْجِذْعِ إِلَى الْمِنْبَرِ فَحَنَّ الِجذْعُ، فَأَتَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَدَهُ الشَّرِيفَةَ عَلَيْهِ فَصَارَ يَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ، فَإِنَّ الْحَسَنَ كَانَ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ الْخَشَبَةُ تَحِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَوْقًا إِلَى لِقَائِهِ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ أَنْ تَشْتَاقُوا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

﴿وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)﴾ أَيْ رَفْعًا بَعِيدَ الْمَدَى بِلا عَمَدٍ.

﴿وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)﴾ عَلَى الأَرْضِ نَصْبًا ثَابِتَةً فَهِيَ رَاسِخَةٌ لا تَمِيلُ مَعَ طُولِهَا.

﴿وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)﴾ أَيْ بُسِطَتْ وَوُسِّعَتْ.

﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَذَكِّرْ﴾ أَيْ عِظْ وَقَوْلُهُ ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ أَيْ وَاعِظٌ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ أَمْرٌ بِغَيْرِ التَّذْكِيرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ أَيْ بِمُسَلَّطٍ قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، فَتُقَاتِلَهُمْ، قَالَ ابْنُ الْبَارِزِيِّ: ثُمَّ نَسَخَتْهَا ءَايَةُ السَّيْفِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ نَزَلَتْ ءَايَاتُ الْقِتَالِ أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْقِتَالِ بَلْ كَانَ مَأْمُورًا بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَسْكُتُ عَنْ جُبْنٍ حِينَ كَانُوا يُؤْذُونَهُ بِالضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ يَنْتَظِرُ الإِذْنَ بِالْقِتَالِ، وَقَبْلَهُ قَدْ قَاتَلَ الأَنْبِيَاءُ كُفَّارًا كَثِيرِينَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَاهَا: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَلَّطٍ فَتُكْرِهَهُمْ عَلَى الإِيـمَانِ فَعَلَى هَذَا لا نَسْخَ وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْحُلْوَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِمُصَيْطِرٍ بِالسِّينِ.

﴿إلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)﴾ مَعْنَاهُ وَلَكِنْ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الإِيـمَانِ وَكَفَرَ بِاللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ قَاهِرُهُ، فَهُنَا إلا لا يَصِحُّ كَوْنُهَا بِمَعْنَى الاسْتِثْنَاءِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ لأَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَيْطِرٌ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مُصَيْطِرًا عَلَيْهِمْ لَكِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ لِكُفْرِهِمْ.

﴿فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ (24)﴾ وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا لا يَخْرُجُ مِنْهَا لا يَحْيَا حَيَاةً هَنِيئَةً وَلا يَمُوتُ فَيَرْتَاحُ، وَهُوَ الأَكْبَرُ لأِنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا.

﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِيَابَهُمْ مَرْجِعَهُمْ، أَيْ مَصِيرَهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وَعَائِشَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ إِيَّابَهُمْ.

﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾ أَيْ جَزَاءَهُمْ.