الرّد على من أنكر رؤية الله تعالى في الآخرة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلَّى الله على رسول الله وسلَّم وعلى ءاله وأصحابه الطيبين وبعد.

فقد دل الكتاب والسنة على أن المؤمنين يرون ربهم سبحانه وتعالى في الجنة، وعلى ذلك أجمع الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أهل الهدى.

روى البخاري في صحيحه: "أَنَّ الناسَ قالوا يا رسولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ قَالَ هَلْ تُمارُونَ (وَالْمِرْيَةُ الشَّكُّ) فِي القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ قالُوا لا يَا رَسُولَ اللهِ قالَ فَهَلْ تُمارُونَ في الشَّمسِ ليسَ دُونَها سَحَابٌ قَالُوا لا قَالَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ" قالَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ العَسْقَلانِيُّ فِي فَتْحِ البَارِي : قَولُهُ (تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ) المرادُ تَشْبِيهُ الرُّؤيةِ بِالرُّؤْيَةِ فِي الوُضُوحِ وَزَوَالِ الشَّكِ ورَفْعِ الْمَشَقَّةِ والاختِلافِ وقالَ البيهقيُّ سَمِعْتُ الشيخَ أبَا الطَّيِّبِ الصُعْلُوكيَّ يَقُولُ ’’لا تَضامُّونَ’’ بِتَشديدِ الميمِ يُريدُ لا تَجْتَمِعُونَ لِرُؤْيَتِهِ فِي جِهَةٍ ولا يَنْضَمُّ بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ فَإِنَّهُ -أَيِ اللهَ- لا يُرَى في جِهَة" اهـ فَرُؤْيتُنا للهِ تعالَى لَيْسَتْ كَرُؤْيَةِ المخلوقاتِ في جِهَةِ أَمَامٍ أَوْ خَلْفٍ أَوْ فَوقٍ أو تَحتٍ أو يمينٍ أو شِمالٍ بَلْ يَرَاهُ المؤمِنُونَ مِنْ غَيرِ أَنْ يَكُونَ سبحانَهُ في جِهَةٍ واحِدَةٍ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكونَ في كُلِّ الجِهَاتِ لأَنَّ الجهاتِ كلَّهَا مَخْلُوقَةٌ خَلَقَهَا اللهُ وكانَ قَبْلَهَا بِلا جِهَةٍ وَالأَمَاكِنَ كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ خلقَها اللهُ وكانَ قبلَهَا بِلا مَكَانٍ وَهُوَ بَعْدَ خَلْقِ الجِهَاتِ وَالأَمَاكِنِ لا يَتَغَيَّرُ مَوْجُودٌ بِلا جِهَةٍ وَلا مَكَانٍ.

وقال صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته" رواه مسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم شبه رؤيتنا لله من حيث عدم الشك برؤية القمر ليلة البدر، ولم يشبه الله تعالى بالقمر. قال ابن منظور في كتابه لسان العرب: لا تَضامُّون في رؤيته، يعني رؤية الله عز وجل، أَي لا يَنْضَمُّ بعضُكم إلى بعضٍ، (لأنّ الله ليس في جهة ولا مكان) ويُروى: لا تُضامُّونَ، على صيغة ما لم يسم فاعله ويروى: تُضامُونَ، من الضَّيْم، وهو مذكور في موضعه؛ قال ابن الأَثير: يروى هذا الحديث بالتشديد والتخفيف، فالتشديد معناه لا يَنْضَمُّ بعضكم إلى بعض وتَزْدحمون وقتَ النظر إليه، قال: ويجوز ضم التاء وفتحها على تُفاعَلون وتَفاعَلون، ومعنى التخفيف لا يَنالكم ضَيمٌ في رؤْيته فيراه بعضُكم دون بعض. والضَّيْمُ: الظُّلْم.

قال الإمام المجتهد أبو حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه -المتوفى سنة 150 هـ- أحد مشاهير علماء السلف إمام المذهب الحنفي ما نصه : "والله تعالى يُرى في الآخرة، ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم بلا تشبيه ولا كميّة، ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة" اهـ. ذكره في [الفقه الأكبر]، وانظر [شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري ص/ 136- 137].

وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في كتابه [الوصية]: "ولقاء الله تعالى لأهل الجنة بلا كيف ولا تشبيه ولا جهة حق" اهـ.

قال : أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي (773 - 852 هـ)، الملقب بـأمير المؤمنين في الحديث : لِأَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا عَقْلًا عُضْوٌ مَخْصُوصٌ وَلَا مُقَابَلَةٌ وَلَا قُرْبٌ ، وَإِنَّمَا تِلْكَ أُمُورٌ عَادِيَّةٌ يَجُوزُ حُصُولُ الْإِدْرَاكِ مَعَ عَدَمِهَا عَقْلًا ، وَلِذَلِكَ حَكَمُوا بِجَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خِلَافًا لِأَهْلِ الْبِدَعِ لِوُقُوفِهِمْ مَعَ الْعَادَةِ .

قال أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676هـ) في كتابه شرح صحيح مسلم – كِتَاب الْإِيمَانِ – رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين : اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِأَجْمَعِهِمْ أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُمْكِنَةٌ غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ عَقْلًا ، وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى وُقُوعِهَا فِي الْآخِرَةِ ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى دُونَ الْكَافِرِينَ . وَزَعَمَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ : الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَبَعْضُ الْمُرْجِئَةِ ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ ، وَأَنَّ رُؤْيَتَهُ مُسْتَحِيلَةٌ عَقْلًا ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ خَطَأٌ صَرِيحٌ وَجَهْلٌ قَبِيحٌ ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنَيْنِ ، وَرَوَاهَا نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ صَحَابِيًّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ فِيهَا مَشْهُورَةٌ وَاعْتِرَاضَاتُ الْمُبْتَدِعَةِ عَلَيْهَا لَهَا أَجْوِبَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَكَذَلِكَ بَاقِي شُبَهِهِمْ وَهِيَ مُسْتَقْصَاةٌ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَلَيْسَ بِنَا ضَرُورَةٌ إِلَى ذِكْرِهَا هُنَا ، وَأَمَّا رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهَا مُمْكِنَةٌ ، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهَا لَا تَقَعُ فِي الدُّنْيَا ، وَحَكَمَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكَ أَنَّهُ حَكَى فِيهَا قَوْلَيْنِ لِلْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ : أَحَدُهُمَا : وُقُوعُهَا ، وَالثَّانِي لَا تَقَعُ ، ثُمَّ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الرُّؤْيَةَ قُوَّةٌ يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا اتِّصَالُ الْأَشِعَّةِ وَلَا مُقَابَلَةُ الْمَرْئِيِّ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ ، لَكِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ فِي رُؤْيَةِ بَعْضِنَا بَعْضًا بِوُجُودِ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الِاتِّفَاقِ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاطِ ، وَقَدْ قَرَّرَ أَئِمَّتُنَا الْمُتَكَلِّمُونَ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ الْجَلِيَّةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِثْبَاتُ جِهَةٍ – تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ – بَلْ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ لَا فِي جِهَةٍ كَمَا يَعْلَمُونَهُ لَا فِي جِهَةٍ .

وفي كتاب [توضيح العقيدة] وهو مقرر السنة الرابعة الإعدادية بالمعاهد الأزهرية بمصر، ما نصه: "فنراه تعالى منزَّهًا عن الجهة والمقابلة وسائر التكيفات، كما أنّا نؤمن ونعتقد أنه تعالى ليس في جهة ولا مقابلاً وليس جسما" اهـ.

وفي كتاب [العقيدة الإسلامية] الذي يدرّس في دولة الإمارات العربية ما نصه: "وأنه تعالى لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء، تقدس عن أن يحويه مكان، كما تنزه عن أن يحده زمان، بل كان قبل أن يخلق الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان" اهـ. وفيه أيضا ما نصه: "وإن عقيدة النجاة المنقذة من أوحال الشرك وضلالات الفرق الزائفة هي اعتقاد رؤيته تعالى في الآخرة للمؤمنين بلا كيف ولا تحديد ولا جهة ولا انحصار" اهـ. هذه عقيدة أهل الحق قاطبة. وما ورد من الفوقية والعلو في حق الله فهو علو قدر ومكانة وعظمة وليس علو مكان وحد والعياذ بالله ! ومن اعتقد الجسم في حق الله أو أن الله يحويه مكان أو جهة فعليه ترك هذه العقيدة الكفرية والنطق بالشهادتين للسلامة من الكفر.

وهذهِ الرُّؤْيةُ لِلْمُؤْمنينَ بعدَ دُخولِهِمُ الجنَّةَ ثَابِتَةٌ فِي الشَّرعِ مُجْمَعٌ علَيْهَا بَيْنَ أهْلِ السُّنةِ والجماعةِ فَلا يَجوزُ نَفْيُها ويَدُلُّ علَى ذلكَ قولُ اللهِ تعالَى ﴿وُجوهٌ يومَئِذٍ نَاضِرَةٌ إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [سورة القيامة/22ـ23]، وهذه الآية صريحة لا داعي لتأويلها ، فقد قال الإمام الرّازي في كتابه المحصول : لا يجوز التّأويل إلاّ لدليل عقليٍّ قاطع أو نقليٍّ ثابتٍ.

قال العلامةُ حُجةُ الإسلامِ أبو جعفرٍ الوراقُ الطحاويُّ (227-324): والرؤيةُ حق لأهلِ الجنة، بغيرِ إحاطةٍ ولا كيفيَّةٍ، كما نطقَ به كتابُ ربّنا: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَ‌ةٌ {22} إِلَىٰ رَ‌بِّهَا نَاظِرَ‌ةٌ {23} ﴾. قالَ الله تعالى : « وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً » [سورة طه آية 110]، فالمخلوقاتُ لا تعرفُ حَقيقةَ اللهِ، فَنحنُ لا نعْرفُ حَقيقةَ اللهِ إنَّما نعرفُ اللهَ بصِفاتهِ، وبِتَنزِيههِ عَنْ صِفَاتِ الخَلْقِ وعَنْ كُلِّ ما لا يليقُ بِهِ تَعَالى.

والنظر إذا عُدِّي بإلى كان ظاهرا في نظر الأبصار، يقول العلامة اللغوي أبو منصور الأزهري (المتوفى: 370هـ) في كتابه تهذيب اللغة ( 14/371 ) : " ومن قال: إن معنى قوله : { إلى ربها ناظرة }: بمعنى منتظرة فقد أخطأ، لأن العرب لا تقول : نظرت إلى الشيء بمعنى انتظرته، وإنما تقول : نظرت فلاناً، أي : انتظرته، ومنه قول الحُطَيْئة :

وقد نظرتكم أبناء صادرة للورد طال بها حوزي وتنساسي

فإذا قلت: نظرت إليه لم يكن إلا بالعين، وإذا قلت: نظرت في الأمر احتمل أن يكون تفكراً وتدبراً بالقلب " ا.هـ.

قال اللغوي جمال الدين ابن منظور الأنصاري (المتوفى: 711هـ) : وقوله تعالى : وُجُوهٌ يومئذ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ؛ الأُولى بالضاد والأُخرى بالظاءِ؛ قال أَبو إِسحق: يقول نَضِرَت بِنَعِيم الجنة والنَّظَرِ إِلى ربها.

وقال الله تعالى : تَعْرِفُ في وُجُوههم نَضْرَةَ النَّعِيم ؛ قال أبو منصور : ومن قال إِن معنى قوله إِلى ربها ناظرة يعني منتظرة فقد أَخطأَ، لأَن العرب لا تقول نَظَرْتُ إِلى الشيء بمعنى انتظرته، إِنما تقول نَظَرْتُ فلاناً أَي انتظرته ؛ ومنه قول الحطيئة : نَظَرْتُكُمُ أَبْناءَ صَادِرَةٍ لِلْوِرْدِ، طَالَ بها حَوْزِي وتَنْساسِي وإِذا قلت نَظَرْتُ إِليه لم يكن إِلا بالعين، وإِذا قلت نظرت في الأَمر احتمل أَن يكون تَفَكُّراً فيه وتدبراً بالقلب.

قال الإمام العلَّامة أبو بكر محمد بن الحسن ابن فورك (المتوفى 406) في تفسيره : معنى {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} رائية، والنظر المقرون بالوجه وإلى في اللغة لا تكون إلاّ بمعنى الرؤية.

قال اللغوي الفيروز آبادي (ت817 هـ) في تفسيره تفسير القرآن عند تفسير سورة القيامة ءاية 23 : { وُجُوهٌ } وجوه المؤمنين المصدقين في إيمانهم { يَوْمَئِذٍ } يوم القيامة { نَّاضِرَةٌ } حسنة جميلة ناعمة { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ينظرون إلى وجه ربهم [أي إلى الله] لا يحجبون عنه { وَوُجُوهٌ } وجوه الكافرين والمنافقين { يَوْمَئِذٍ } يوم القيامة { بَاسِرَةٌ } كالحة يحجبون عن رؤية ربهم لا ينظرون إليه.

وقال عند تفسير سورة المطففين ءاية 15 : { كَلاَّ } حقاً يا محمد { إِنَّهُمْ } يعني المكذبين بيوم الدين { عَن رَّبِّهِمْ } عن النظر إلى ربهم { يَوْمَئِذٍ } يوم القيامة { لَّمَحْجُوبُونَ } لممنوعون والمؤمنون لا يحجبون عن النظر إلى ربهم.

وقال عند تفسير الأعراف ءاية 143 : { وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا } لميعادنا بمدين { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } طمع في الرؤية { قَالَ } الله { لَن تَرَانِي } لن تقدر أن تراني في الدنيا يا موسى.

فليس من شرط الرُّؤية الجسميّة وإنّما من شرط الرُّؤية الوجود. وكذلكَ قولُه صلى الله عليه وسلم فيمَا رواهُ مُسلمٌ في صَحِيحِه "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَومَ القِيامَةِ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ ليلَةَ البَدْرِ لا تَضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ" أَيْ لا تَتَزَاحمُونَ في رُؤْيَتِهِ وذَلكَ لأَنَّ رؤيةَ اللهِ لا تَكُونُ بِالْمُقَابَلَةِ والْمُواجهَةِ إِنَّما اللهُ يَكْشِفُ الحِجَابَ عَنْ أَبْصَارِ الْمُؤْمِنِينَ أَي يُعْطِي المؤمِنِينَ فِي أَبْصَارِهِمْ قُوَّةً يَرَوْنَ بِهَا اللهَ بِلا جِهَةٍ وَلا مَكَانٍ كَمَا نَبَّهَ علَى ذلكَ الإمامُ أبو حنيفَةَ رَضِيَ الله عنه فإنهُ قالَ "وَلِقَاءُ اللهِ لأَهْلِ الجنَّةِ ـ أَيْ رؤيَتُهُمْ للهِ ـ بِلا جِهَةٍ ولا تَشْبِيهٍ وَلا كَيْفٍ حَقٌّ". وليسَ معنَى قولِهِ صلى الله عليه وسلم "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَومَ القِيامَةِ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ ليلَةَ البَدْرِ" أَنَّ اللهَ سبحانَهُ يُشبِهُ القَمَرَ حَاشَا وَكَلا إِنَّما النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شبَّهَ رُؤْيَتَنَا للهِ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الشَّكِّ بِرُؤْيَةِ القَمَرِ ليلَةَ البَدْرِ وَلَمْ يُشَبِّهِ اللهَ تعالَى بِالقَمَرِ، فكمَا أَنَّ مُبْصِرَ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ لا يَشُكُّ أَنَّ الذِي رَءاهُ هُوَ القَمَرُ كذَلِكَ المؤمِنونَ عندَمَا يَرَوْنَ اللهَ تعالَى يرَوْنَهُ رُؤْيَةً لا يَكُونُ عليهِمْ فِيهَا اشْتِبَاهُ فَلا يَشُكُّونَ هلِ الذِي رَأَوْهُ هو اللهُ أَوْ غَيْرُه لأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ، هذَا معنَى الحدِيثِ.

هذَا التَّفْسيرُ الذِي ذَكَرْنَاهُ نَصَّ عليهِ عُلماءُ أَهلِ السنةِ والجماعةِ وهو يُفْهَمُ مِنْ رِوايَةِ البُخَارِيِّ لِهَذَا الحديثِ فَفِيهِ "أَنَّ الناسَ قالوا يا رسولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ قَالَ هَلْ تُمارُونَ ـ وَالْمِرْيَةُ الشَّكُّ ـ فِي القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ قالُوا لا يَا رَسُولَ اللهِ قالَ فَهَلْ تُمارُونَ في الشَّمسِ ليسَ دُونَها سَحَابٌ قَالُوا لا قَالَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ" قالَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ العَسْقَلانِيُّ فِي فَتْحِ البَارِي : قَولُهُ (تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ) المرادُ تَشْبِيهُ الرُّؤيةِ بِالرُّؤْيَةِ فِي الوُضُوحِ وَزَوَالِ الشَّكِ ورَفْعِ الْمَشَقَّةِ والاختِلافِ وقالَ البيهقيُّ سَمِعْتُ الشيخَ أبَا الطَّيِّبِ الصُعْلُوكيَّ يَقُولُ ’’لا تَضامُّونَ’’ بِتَشديدِ الميمِ يُريدُ لا تَجْتَمِعُونَ لِرُؤْيَتِهِ فِي جِهَةٍ ولا يَنْضَمُّ بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ فَإِنَّهُ –أَيِ اللهَ- لا يُرَى في جِهَة" اهـ

قال تعالى : ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [يونس آية 26] فقد ورد في حديث صهيب تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة بالرؤية، كما روى ذلك مسلم في صحيحه عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال : يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم، فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة، وتنجينا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل، ثم تلا هذه الآية ﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ﴾).

قال الإمام النسفي (ت 710 هـ) في تفسيره مدارك التنزيل وحقائق التأويل عند تفسير سورة يونس آية 26:
{ لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } آمنوا بالله ورسله {الْحُسْنى} المثوبة الحسنى وهي الجنة { وَزِيَادَةٌ } رؤية الرب عز وجل كذا عن أبي بكر وحذيفة وابن عباس وأبي موسى الأشعري وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم، وفي بعض التفاسير أجمع المفسرون على أن الزيادة النظر إلى الله تعالى. وعن صهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دخل أهل الجنة يقول الله تبارك وتعالى: أتريدون شيئاً أزيدكم ؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ؟ ـ قال: ـ فنرفع الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم " ثم تلا ﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ

فَرُؤْيتُنا للهِ تعالَى لَيْسَتْ كَرُؤْيَةِ المخلوقاتِ في جِهَةِ أَمَامٍ أَوْ خَلْفٍ أَوْ فَوقٍ أو تَحتٍ أو يمينٍ أو شِمالٍ بَلْ يَرَاهُ المؤمِنُونَ مِنْ غَيرِ أَنْ يَكُونَ سبحانَهُ في جِهَةٍ واحِدَةٍ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكونَ في كُلِّ الجِهَاتِ لأَنَّ الجهاتِ كلَّهَا مَخْلُوقَةٌ خَلَقَهَا اللهُ وكانَ قَبْلَهَا بِلا جِهَةٍ وَالأَمَاكِنَ كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ خلقَها اللهُ وكانَ قبلَهَا بِلا مَكَانٍ وَهُوَ بَعْدَ خَلْقِ الجِهَاتِ وَالأَمَاكِنِ لا يَتَغَيَّرُ مَوْجُودٌ بِلا جِهَةٍ وَلا مَكَانٍ.

قال الإمام المجتهد أبو حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه -المتوفى سنة 150 هـ- أحد مشاهير علماء السلف إمام المذهب الحنفي ما نصه : "والله تعالى يُرى في الآخرة، ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم بلا تشبيه ولا كميّة، ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة" اهـ. ذكره في [الفقه الأكبر]، وانظر [شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري ص/ 136- 137].

وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في كتابه [الوصية] : "ولقاء الله تعالى لأهل الجنة بلا كيف ولا تشبيه ولا جهة حق" اهـ.

وفي كتاب [توضيح العقيدة] وهو مقرر السنة الرابعة الإعدادية بالمعاهد الأزهرية بمصر، ما نصه: "فنراه تعالى منزَّهًا عن الجهة والمقابلة وسائر التكيفات، كما أنّا نؤمن ونعتقد أنه تعالى ليس في جهة ولا مقابلاً وليس جسما" اهـ.

وفي كتاب [العقيدة الإسلامية] الذي يدرّس في دولة الإمارات العربية ما نصه : "وأنه تعالى لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء، تقدس عن أن يحويه مكان، كما تنزه عن أن يحده زمان، بل كان قبل أن يخلق الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان" اهـ. وفيه أيضا ما نصه : "وإن عقيدة النجاة المنقذة من أوحال الشرك وضلالات الفرق الزائفة هي اعتقاد رؤيته تعالى في الآخرة للمؤمنين بلا كيف ولا تحديد ولا جهة ولا انحصار" اهـ. هذه عقيدة أهل الحق قاطبة. وما ورد من الفوقية والعلو في حق الله فهو علو قدر ومكانة وعظمة وليس علو مكان وحد والعياذ بالله ! ومن اعتقد الجسم في حق الله أو أن الله يحويه مكان أو جهة فعليه ترك هذه العقيدة الكفرية والنطق بالشهادتين للسلامة من الكفر.

أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي إباضية إيمان بالله ثقافة إسلامية جنة دروس دينية إسلامية رؤية الله رؤية الله في الآخرة معتزلة نعيم جنة أمر بمعروف ونهي عن منكر أهل السنة إيمان بالله عقيدة إسلامية يوم آخر آخرة تذكير ديني إسلامي دروس دينية إسلامية ردود إباضية