تفسير سورة البقرة آية 26

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:

لما ذَكَر اللهُ تَعالى الذُّبَابَ والعَنكَبُوتَ في كِتَابِه وضَرَبَ بهِ مَثَلًا ضَحِكَتِ اليَهُودُ وقَالُوا مَا يُشبِهُ هَذا كَلامَ اللهِ فَنزَلَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} أيْ لا يَترُكُ ضَرْبَ الَمَثَلِ بالبَعُوضَةِ تَركَ مَن يَستَحِي أنْ يَتمَثَّلَ بِها لِحَقَارَتِها. (العبَادُ تَركوا ضَرْبَ المثَلِ بها نَظَرًا لحَقَارَتها اللهُ لا يَستَحِي كاستِحيَاءِ هؤلاء)

وأَصْلُ الحَياءِ تَغَيُّرٌ وانْكِسَارٌ يَعتَرِي الإنسَانَ مِنْ تَخَوُّفِ مَا يُعَابُ بهِ ويُذَمُّ ، ولا يَجُوزُ على القَدِيمِ التَّغَيُّرُ وخَوفُ الذّمّ (اللهُ لا يَخَافُ مِن ذَمّ الذي يَذُمُّ لأنّهُ قَدِيمٌ لا يَجُوزُ علَيهِ التّغَيُّرُ) ولكنّ التَّرْكَ لَمّا كانَ مِن لَوازِمِه عَبَّرَ عَنهُ بهِ، ويجُوز أن تَقَعَ هَذهِ العِبَارَةُ في كَلامِ الكَفرَةِ فقَالوا : أمَا يَستَحِيْ رَبُّ محَمَّدٍ أنْ يَضرِبَ مَثَلًا بالذُّبَابِ والعَنكَبُوتِ ، فجَاءَتْ على سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ وإطْبَاقِ الجَوابِ على السّؤال ، وهوَ فَنٌّ مِنْ كَلامِهِم بَدِيعٌ.

يُقَالُ : استَحيَيتُه واستَحْيَيتُ مِنهُ وهما محتَمِلَتَان هُنا ، وضَربُ الْمَثَلِ صُنعُه مِن ضَرْبِ اللَّبَنِ وضَرْبِ الخَاتَم.

و " مَا " هَذه إبهَامِيَّةٌ وهيَ التي إذَا اقْتَرنَت باسمِ نَكِرَة أَبْهَمَتْهُ إبْهَامًا وزَادَتْهُ عُمُومًا كقَولِكَ : " أَعطِني كِتَابًا مَا " تُرِيدُ أيَّ كِتَابٍ كَانَ ، أو صِلَةٌ للتّأكِيدِ كأَنَّه قالَ : لا يَستَحِي أن يَضرِبَ مَثَلًا ألبَتّةَ.

واشْتِقَاقُها أي البَعُوضَةِ مِنَ البَعْضِ وهوَ القَطْعُ كالبَضْعِ والعَضْبِ (هَذه الكلِمَاتُ فِيهَا دِلالَةٌ على القَطْع).

يُقَالُ بَعَضَهُ البَعُوضُ ومِنهُ بَعْضُ الشّىءِ لأنّهُ قِطعَةٌ مِنهُ ، والبَعُوضُ في أَصْلِهِ صِفَةٌ على فَعُول كالقَطُوع فغُلِّبَت (البَعُوضُ في الأصل صِفَةٌ وَصْفٌ ليسَ اسمًا جَامِدًا ثم أُطْلِقَتْ على هَذه الحشَرَةِ).

{فَمَا فَوْقَهَا} فمَا تَجَاوَزَها، وزَادَ علَيها في المعنى الذي ضُرِبَتْ فيهِ مَثَلًا وهوَ القِلَّةُ والحَقَارَةُ ، أو فَمَا زادَ علَيها في الحَجْم كأنّه أرادَ بذلكَ رَدَّ مَا اسْتَنكَرُوهُ مِن ضَربِ الْمَثَل بالذُّبَابِ والعَنكَبُوتِ لأَنَّهما أكبَرُ مِنَ البَعُوضَةِ.

وَلا يُقَالُ كَيفَ يُضرَبُ الْمَثَلُ بِما دُونَ البَعُوضَةِ وهيَ النّهَايَةُ في الصِّغَر لأنّ جَنَاحَ البَعُوضَةِ أقَلُّ مِنهَا وأصغَرُ بدَرجَاتٍ وقَدْ ضَربَه رَسُولُ الله صلى الله علَيه وسلّم مَثَلًا للدُّنيَا. (في الحَدِيثِ المشهُور" لَو كَانَتِ الدُّنيَا تُسَاوِي عندَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى الكِافِرَ مِنهَا شَربَةَ مَاء" رواه الحاكم والطبراني)

{فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} والحَقُّ الثّابِتُ الذي لا يَسُوغُ إنكَارُه، يُقَالُ حَقَّ الأمرُ إذَا ثَبَتَ ووَجَبَ

{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} وفي قَولِهم مَاذَا أَرَادَ اللهُ بهَذا مَثَلًا استِحقَارٌ كمَا قَالَت عَائِشَةُ رضيَ الله عنها في عبدِ اللهِ بنِ عمرو : يا عَجَبًا لابنِ عَمرٍو هَذا، مُحقِّرَةً لهُ. وأمّا حَرفٌ فيهِ مَعنَى الشَّرطِ ولِذا يُجَابُ بالفَاءِ ، وفَائِدَتُه في الكَلام أنْ يُعطِيَه فَضْلَ تَوكِيدٍ.

وفي إيرادِ الجُملتَينِ مُصَدَّرَتَينِ بهِ وإنْ لم يَقُل فالذينَ آمَنُوا يَعلَمُونَ والذينَ كَفَرُوا يَقُولُون إحمَادٌ عَظِيمٌ لأمرِ المؤمنِينَ واعتِدَادٌ بلِيغٌ بعِلمِهِم أنّهُ الحَقُّ ، ونَعيٌ على الكَافِرينَ إغفَالَهم حَظَّهُم ورَميَهُم بالكَلِمةِ الحَمقَاءِ.

ومَاذا فيهِ وَجْهَانِ (مِن حَيثُ العَربيّةُ) : أنْ يَكُون " ذا " اسمًا مَوصُولًا بمعنى الذي و " ما " استِفهَامًا فيَكُونُ كَلِمتَين ، وأنْ تَكُونَ " ذَا " مُركَّبَةً مع " مَا " مَجعُولَتَينِ اسمًا واحِدًا للاستِفهَام فيَكُونُ كَلِمَةً واحِدَةً ، فـ " مَا " على الأوّلِ رَفعٌ بالابتِدَاءِ وخَبَرُه " ذَا " معَ صِلَتِه أيْ أرَادَ ، والعَائِدُ مَحذُوفٌ.

وعلى الثّاني مَنصُوبُ المحَلِّ بـ " أَرادَ " والتّقدِيرُ : أيَّ شَيءٍ أرَادَ اللهُ.

والإرادَةُ مَصدَرُ أَرَدتُ الشَّيءَ إذَا طَلَبَتْهُ نَفسُكَ ومَالَ إلَيهِ قَلبُكَ ، وهيَ عِندَ المتَكِّلِمِينَ مَعنًى يَقتَضِي تَخصِيصَ المفعُولاتِ بوَجْهٍ دُونَ وَجهٍ ، واللهُ تَعالى مَوصُوفٌ بالإرادَةِ على الحَقِيقَةِ عندَ أَهلِ السُّنّةِ.

{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} جَارٍ مَجرَى التّفسِيرِ والبَيانِ للجُملَتَينِ المصَدَّرَتَين بـ " أمّا " ، وأنّ فَرِيقَ العَالِمِينَ بأنّهُ الحَقُّ وفَرِيقَ الجَاهِلِينَ المستَهزِئينَ بهِ كِلاهُما مَوصُوفٌ بالكَثْرَة ، وأنّ العِلْمَ بكَونِه حَقًّا مِن بَابِ الهدى ، وأنّ الجَهْلَ بحُسْنِ مَورِدِه مِن بابِ الضّلالَةِ.

وأهلُ الهُدَى كَثِيرٌ في أنفُسِهِم وإنّما يُوصَفُونَ بالقِلّةِ بالقِيَاسِ إلى أهلِ الضّلال ، ولأنّ القَلِيلَ مِنَ المهتَدِينَ كَثِيرٌ في الحقِيقَةِ وإنْ قَلُّوا في الصُّورَةِ.

والإضْلَالُ : خَلقُ فِعلِ الضَّلالِ في العَبْد (مَعنَى أضَلَّ اللهُ مَن شَاءَ مِن عِبَادِه خَلَقَ الضّلالَةَ في أَنفُسِهِم، خَلَقَ فِيهِم عَمَلَ الضّلالِ فِعْلَ الضَّلال)، والهدَايَةُ خَلقُ فِعلِ الاهتِدَاء (مَعنى هَدَى اللهُ عَبدَه خَلَقَ فيهِ العَمَلَ الذي هوَ هُدًى الإيمانَ والطّاعَةَ) ، هَذا هوَ الحَقِيقَةُ عندَ أهلِ السُّنّةِ ، وسِيَاقُ الآيةِ لِبَيانِ أنّ مَا اسْتَنكَرَه الجَهَلَةُ مِنَ الكُفّار واسْتَغرَبُوه مِن أنْ تَكُونَ المحَقَّرَاتُ مِنَ الأشياءِ مَضرُوبًا بها المثَلُ ليسَ بموضِع الاستِنكَارِ والاستِغرابِ لأنَّ التَّمثِيلَ إنّما يُصَارُ إلَيهِ لِمَا فيهِ مِن كَشْفِ المعنى وإدنَاءِ المتَوهَّمِ مِنَ الْمَشَاهِد.

فإنْ كانَ المتَمَثَّلُ لهُ عَظِيمًا كانَ المتَمثَّلُ بهِ كذَلكَ ، وإنْ كانَ حَقِيرًا كانَ المتَمثَّلُ بهِ كذَلكَ ، ألا تَرَى أنّ الحَقّ لَمَّا كانَ واضِحًا جَلِيّا تُمُثِّلَ لهُ بالضّيَاءِ والنُّور ، وأنّ البَاطِلَ لَمّا كانَ بضِدّ صِفَتِه تُمثِّلَ لهُ بالظُّلمَةِ ، ولَمّا كانَت حالُ المعبوداتِ التي جعَلَها الكُفّارُ أَندَادًا للهِ لا حَالَ أَحقَرُ مِنهَا وأقَلُّ ، ولذَلكَ جُعِلَ بَيتُ العَنكَبُوتِ مِثلَها في الضَّعفِ والوَهْنِ ، وجُعِلَتْ أقَلَّ مِنَ الذّبَابِ وضُرِبَتْ لها البَعُوضَةُ فالذي دُونَها مَثَلًا لم يُستَنكَر ولم يُستَبدَع ولم يُقَل لِلمُتَمَثِّل استَحْيِ مِن تَمثِيلِها بالبَعُوضَةِ لأنّهُ مُصِيبٌ في تَمثِيلِه ، مُحِقٌّ في قَولِه ، سَائِقٌ لِلمَثَل على قَضِيّةِ مَضْرِبِه ، ولِبَيانِ أنّ المؤمنِينَ الذينَ عَادَتُهم الإنصَافُ والنّظَرُ في الأمُورِ بنَاظِرِ العَقلِ إذَا سَمِعُوا بهذا التّمثِيلِ عَلِمُوا أنّهُ الحَقُّ ، وأنَّ الكُفّارَ الذينَ غَلَبَ الجَهلُ على عُقُولِهم إذا سَمِعوه كَابَرُوا وعَانَدُوا وقَضَوا علَيهِ بالبُطلانِ وقَابَلُوهُ بالإنكَارِ ، وأنّ ذلكَ سبَبُ هُدَى المؤمنِينَ وضَلالُ الفَاسِقِينَ.

والعَجَبُ مِنهُم كَيفَ أَنكَرُوا ذلكَ (أي أنْ يَضرِبُ اللهُ الْمَثَلَ بالبَعُوضَةِ فمَا فَوقَهَا) ومَا زالَ النّاسُ يَضرِبُونَ الأمثَالَ بالبَهائِم والطّيُور وخَشَاشِ الأرض (أي حَشَراتها) فقالوا : أَجمَعُ مِن ذَرَّةٍ ، وأَجْرَأُ مِنَ الذُّبَاب ، وأَسمَعُ مِنْ قِرْدٍ ، وأَضْعَفُ مِنْ فَراشَةٍ ، وآكَلُ مِنَ السُّوسِ ، وأَضْعَفُ مِنَ البَعُوضَةِ ، وأَعَزُّ مِنْ مُخِّ البَعُوضِ ، ولكنّ دَيْدَنَ الْمَحجُوج والْمَبهُوتِ أنْ يَرضَى لفَرْطِ الحَيرَةِ بدَفْع الواضِح وإنكَارِ اللّائِح (أي الظاهر)

{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)} والفِسقُ : الخُرُوجُ عن القَصدِ.

والفَاسِقُ في الشّرِيعَةِ : الخَارِجُ عن الأمرِ بارتِكَابِ الكَبِيرَةِ .

سني أهل السنة دروس دينية إسلامية ثقافة إسلامية تفسير قرآن تفسير سورة البقرة تفسير النسفي منافقين منافق