تفسير سورة البقرة آية 30

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} الملائِكَةُ جَمعُ مَلْأَكٍ كالشَّمَائِلِ جَمعُ شَمْأَلٍ وإلحَاقُ التّاءِ لِتَأنِيثِ الجَمْعِ.

{إِنِّي جَاعِلٌ} أيْ مُصَيِّرٌ

{فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وهوَ مَنْ يَخلُفُ غَيرَه والمعنى : خَلِيفَةً مِنكُم لأنّهم كانُوا سُكّانَ الأرضِ فخَلَفَهُم فِيها آدمُ وذُرّيّتُه. واسْتَغنَى بذِكْرِه عَن ذِكْرِ بَنِيْهِ كمَا تَستَغني بذِكْرِ أبي القَبِيلَةِ في قَولِكَ " مُضَرُ وهَاشِمٌ " ، أو أُرِيدَ مَن يَخلُفُكُم، أو خَلقًا يَخلُفكُم فوُحِّدَ لذلكَ ، أو خَلِيفَةً مِنّي لأنّ آدمَ كانَ خَلِيفَةَ اللهِ في أَرضِه وكذلكَ كُلُّ نَبيّ.

ولم يَقُل خَلائِفَ أو خُلفَاءَ لأنّهُ أُرِيدَ بالخَلِيفَةِ آدَمَ. وإنّما أَخبَرهُم بذَلِكَ لِيَسأَلُوا ذلكَ السّؤالَ ويُجَابُوا بما أُجِيبُوا بهِ فيَعرِفُوا حِكمَتَهُ في استِخلَافِهِم قَبلَ كَونِهم ، (الخَلِيفَةُ لَيسَ مَعنَاهُ الوكِيلُ إنّما مَعنَاهُ مَن يُقِيمُ أوَامِرَه في الأرضِ) أو لِيُعَلِّمَ عِبَادَهُ المشَاوَرةَ في أُمُورِهم قَبلَ أنْ يُقْدِمُوا عَلَيها وإنْ كانَ هوَ بعِلمِه وحِكمَتِه البَالِغَةِ غَنِيًّا عن المشَاوَرةِ. (قولُ اللهِ للمَلائِكَةِ إنّي جَاعِلٌ في الأرضِ خَلِيفَةً فِيهِ حِكمَةُ تَعلِيمِ العِبَادِ الْمُشَاوَرةَ في أُمُورِهم قَبلَ أنْ يُقدِمُوا علَيهَا)

{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} هَذا سؤالُ اسْتِكشَافٍ عن الحِكمَةِ. تَعَجُّبٌ مِن أنْ يَستَخلِفَ مَكَانَ أَهلِ الطّاعَةِ أهلَ المعصِيَةِ وهوَ الحَكِيمُ الذي لا يَجهَلُ ، وإنّما عَرَفُوا ذلكَ بإخبَارٍ مِنَ اللهِ تَعالى ، أو مِن جِهَةِ اللَّوحِ، أو قَاسُوا أحَدَ الثَّقَلَينِ على الآخَر. (أو أَعْلَمَهُم بوَاسِطَةِ جِبرِيلَ أو غَيرِه، أو قَاسُوا الإنسَ على الجنّ لأنّهم جَرَّبُوا وشَاهَدُوا مَا فعَلُوا في الأرضِ مِنَ الفَسَادِ فِيهَا وظُلْمِ بَعضِهِم بَعضًا، هَذا لم يَرِدْ في حَدِيثٍ ثَابِتٍ وإنّما حِكَايَةُ أنّهُ كانَ على الأرضِ جِنٌّ أَفْسَدُوا فيهَا ثم أَحْرَقَتْهُمُ الملائكَة،ُ غَيرُ ثَابِتٍ مِن حَيثُ الدَّليلُ.) وردَ أنّه كانَ جِنٌّ أَفسَدُوا وسَفَكُوا الدِّماءَ في الأرضِ قَبلَ آدَم فأنزلَ اللهُ علَيهِم الملائكةَ فأَحرَقُوهُم، بعضُ المفسِّرين قالوا هذا عبارةٌ عن هؤلاء، أمّا عندَ مَن لم يُثبِت ذلك فالجوابُ أنّ الملائكةَ يُطْلعُهم الله على كثِيرٍ مما سيَحدثُ قَبلَ أن يَحدُث، أليسَ كلَّ عام في لَيلةِ القَدْر يَأخُذونَ التّدابير التي تَحدُث إلى مِثلِ هذه اللّيلةِ مِنَ العام القَابِل، هذا بإطلاعِ الله لهم على أشياءَ قَبلَ أن تحصُل " قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا " إنما الملائكةُ اعتمادًا على ما اطّلَعُوا عليه بإطْلاع الله إياهُم على أحوالِ بني آدمَ ما يَحدُث منهُم مِن سَفْكِ الدِّماء بغَيرِ حَقّ ومِنَ الظُّلمِ فيمَا بَينَهُم. (سؤالُ الملائكةِ لَيسَ اعتراضًا على اللهِ إنّما قَصدُهُم أنْ يَعرِفُوا الحِكمَةَ في جَعلِ البشَرِ الذينَ يَسفِكُونَ الدّماءَ ويُفسدُونَ في الأرضِ خَلِيفَةً في الأرضِ أي حُكَّامًا في الأرضِ يَعمُرُونَها ويَحكُمونَ فيها، أرادُوا أن يَسْتَكشِفُوا عن الحِكمةِ التي مِن أجلِها جعَلَ اللهُ البَشرَ خَليفةً في الأرض.)

أعلَمَهُم اللهُ تبارك وتعَالى أنّ الحكمةَ في ذلك أنّ البشرَ أفضَلُ الخلق وأعطَاهم على ذلكَ شَاهدًا واحٍدًا وهو أنّ اللهَ سألَ الملائكةَ عن أسماءِ الأشياء فلَم يَعرفوا أسماءَ الأشياءِ فقَالَ لآدمَ: أنبِئهُم بأسمائهم وعن أسماءِ هَذه الأشياء، أخبَر الملائكةَ بأنّ هذا اسمُه كذا وهذا اسمُه كذا وهذا اسمُه كذا أنبَأهم فعَرفوا الحِكمَةَ، قالوا إنّما جعَلَ البشَرَ حُكّامًا في الأرض لأنهم أفضَلُ مِن غَيرهم منَ الخَلْق وذلكَ لأجْل وجُودِ الأنبياءِ فيهم، علِمُوا الحِكمَة فسَلَّمُوا للهِ تَسليمًا، هم كانُوا مسَلّمِينَ قَبلًا لم يحصُل منهُم اعتراضٌ على الله، لم يكنْ قَصدُهم قَصدَ إبليسَ لمّا قالَ أنَا خَيرٌ منهُ أَأسجُدُ لمن خلَقتَ طِينًا، لم يَكن قَصدُهم كقصدِ إبليسَ لأنَّ إبليسَ كانَ قصدُه الاعتراضَ على الله، كأنّه يقولُ أنتَ حَكَمتَ عَليَّ بحُكْمٍ غيرِ صحِيح، كيفَ تأمرُني بأنْ أَسجُدَ لِمَنْ أنَا خَيرٌ مِنهُ خَلَقتَني مِن نَارٍ وخَلَقتَه مِن طِينٍ، هَذا اعتراضٌ على الله، ولذلكَ استَحَقَّ الطَّردَ أمّا هؤلاء الملائكةُ قَبلَ ذلكَ لمّا أُمِرُوا بالسّجُودِ لآدمَ سَجَدوا، لكنْ سؤالُهم هَذا ليسَ للاعتراضِ بل للاستِكشَافِ عن الحِكمَةِ فعلِمُوا الحِكمَة فازدَادُوا تَسلِيمًا للهِ تَعالى، الأسماءُ التي علَّم اللهُ تعالى آدمَ ولم تَعرِفْها الملائِكةُ هيَ أسماءُ كلِّ شَيء، آدمُ عليه السَّلام أفاضَ اللهُ عليهِ المعرفةَ بأسماءِ كلّ شىءٍ مِن غَيرِ أن يَسبِقَ لهُ تَعلُّمٌ مِن أحَدٍ كانَ ذلكَ مِن فَضلِه علَيهِم مع أنّه أفضَلُ مِنهُم، هُم كَانُوا خُلِقُوا قَبلَ ذلكَ بزمَانٍ طَوِيلٍ ومَا كانَ عندَهُم عِلمٌ بأسماءِ كُلّ شىءٍ أمَّا هوَ مَا كانَ مَضَى علَيهِ زَمانٌ طَويلٌ مُنذُ طُوِّرَ وخُلِقَ، الملائكَةُ سَجَدُوا لآدمَ السُّجودَ الذي هوَ بوَضْع الجَبهَةِ على الأرضِ هَذا هوَ القولُ المعتَمَدُ أكثَرُ المفسّرينَ على هذا، وبعضُ المفسّرين قالوا ذلكَ السّجودُ كانَ بمجرّدِ الانحنَاءِ ليسَ بوَضْع الجبهَةِ على الأرض،)

{وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} أي يَصُبُّ

{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} أي نُسَبّحُ حَامِدينَ لكَ ومُتَلَبّسِينَ بحَمدِكَ

{وَنُقَدِّسُ لَكَ} ونُطَهّرُ أَنفُسَنا لكَ.

وقيلَ : التَّسبِيحُ والتّقدِيسُ تَبعِيدُ اللهِ مِنَ السُّوءِ مِنْ سَبَحَ في الأرضِ وقَدَّسَ فِيهَا إذَا ذَهَبَ فِيهَا وأَبْعَدَ.

{قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} أيْ أَعلَمُ مِنَ الحُكْمِ في ذلكَ مَا هوَ خَفِيٌّ علَيكُم يَعني يَكُونُ فِيهِمُ الأنبياءُ والأولياءُ والعُلَماءُ.

سني أهل السنة دروس دينية إسلامية ثقافة إسلامية تفسير قرآن تفسير سورة البقرة تفسير النسفي منافقين منافق