تفسير سورة البقرة آية 127 - 128 - 129 - 130

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ} هيَ جَمعُ قَاعِدَةٍ وهيَ الأسَاسُ والأَصْلُ لِمَا فَوْقَهُ وهيَ صِفَةٌ غَالِبَةٌ ومَعنَاهَا الثّابِتَةُ.

ورَفْعُ الأَسَاسِ البِنَاءُ علَيها لأنّها إذَا بُنيَ علَيهَا نُقِلَت عن هَيئَةِ الانخِفَاضِ إلى هَيئَةِ الارتِفَاع وتَطَاوَلَتْ بَعدَ التّقَاصُرِ.

{مِنَ الْبَيْتِ} بَيتِ اللهِ وهوَ الكَعبَةُ

{وَإِسْمَاعِيلَ} هوَ عَطفٌ على إبراهِيمَ وكانَ إبراهِيمُ يَبنِي وإسماعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ

{رَبَّنَآ} أيْ يَقُولَانِ رَبَّنَا.

وقَدْ أَظْهَرَه عَبدُ اللهِ في قِرَاءَتِه ومَعنَاهُ يَرفَعَانِهَا قَائِلَينَ رَبَّنَا

{تَقَبَّلْ مِنَّآ} تَقَرُّبَنَا إلَيكَ ببِنَاءِ هَذا البَيتِ

{إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ} لِدُعَائِنَا

{الْعَلِيمُ} [البقرة : 127] بضَمَائِرِنَا ونِيّاتِنَا.

وفي إبْهَامِ القَواعِدِ وتَبْيِينِها بَعدَ الإبْهَام تَفخِيمٌ لِشَأْنِ الْمُبَيَّنِ.

{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} مُخلِصَينِ لَكَ أَوْجُهَنَا مِن قَولِه {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أو مُسْتَسْلِمَينِ يُقَالُ أَسْلَمَ لهُ واسْتَسْلَمَ إذَا خَضَعَ وأَذْعَنَ ، والمعنى زِدْنَا إخْلَاصًا وإذْعَانًا لكَ.

{وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ} واجْعَلْ مِن ذُرَّيَتِنَا

{أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} ومِنْ لِلتَّبْعِيضِ أو لِلتَّبْيِينِ.

وقِيلَ : أَرَادَ بالأُمَّةِ أُمَّةَ محَمَّدٍ علَيهِ السَّلامُ وإنّما خَصَّا بالدُّعَاءِ ذُرِّيَتَهُمَا لأنَّهُم أَوْلَى بالشَّفَقَةِ كقَولِه تَعَالى : {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيْكُمْ نَارًا}.

{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} مَنقُولٌ مِن "رَأَى" بمعنى أَبْصَرَ أو عَرَفَ ولِذَا لم يَتَجَاوَزْ مَفعُولَين أيْ وبَصِّرْنَا مُتَعَبَّدَاتِنَا في الحَجِّ أو عَرِّفْنَاهَا.

ووَاحِدُ الْمَنَاسِكِ مَنْسَكٌ بفَتحِ السِّينِ وكَسْرِهَا وهوَ الْمُتَعَبَّدُ ولهذا قِيلَ لِلعَابِدِ نَاسِكٌ.

{وَتُبْ عَلَيْنَآ} مَا فَرَطَ مِنَّا مِنَ التّقصِيرِ، أو اسْتَتَابَا لِذُرَّيَتِهِما

{إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة : 128]

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ} في الأُمَّةِ الْمُسلِمَةِ

{رَسُولًا مِّنْهُمْ} مِنْ أَنفُسِهِم فبَعَثَ اللهُ فِيهِم محَمَّدًا علَيهِ السَّلامُ ، قَال علَيهِ السَّلامُ: "أنَا دَعْوَةُ أَبي إبراهِيمَ وبُشْرَى عِيسَى ورُؤيَا أُمِّي" رواه ابن حبان والبزار وأحمد. (أيْ أنّ ءامِنَةَ رَأَتْ أنّهُ خَرَجَ مِنهَا نُورٌ مَلَأ مَكّةَ)

{يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِكَ} يَقرَأُ عَلَيهِم ويُبَلِّغُهُم مَا تُوحِي إلَيهِ مِنْ دَلائِلِ وَحْدَانِيَّتِكَ وصِدْقِ أَنبِيَائِكَ ورُسُلِكَ

{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ} القُرآنَ

{وَالْحِكْمَةَ} السُّنَّةَ وفَهْمَ القُرآنِ

{وَيُزَكِّيْهِمْ} ويُطَهِّرُهُم مِنَ الشِّرْكِ وسَائِرِ الأرجَاسِ

{إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ} الغَالِبُ الذي لا يُغلَبُ

{الْحَكِيمُ}[البقرة : 129] فِيمَا أَوْلَيْتَ.

{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} استِفْهَامٌ بمعنَى الجَحْدِ وإنْكَارُ أنْ يَكُونَ في العُقَلَاءِ مَن يَرغَبُ عَنِ الحَقِّ الوَاضِحِ الذي هوَ مِلَّةُ إبراهِيمَ.

والْمِلَّةُ السُّنَّةُ والطَّرِيقَةُ كَذا عن الزَّجَّاجِ

{إِلا مَنِ} والمعنَى ومَا يَرغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهِيمَ إلا مَنْ

{سَفِهَ نَفْسَهُ} أيْ جَهِلَ نَفْسَهُ أيْ لم يُفَكِّرْ في نَفْسِهِ، أو مَعنَاهُ سَفِهَ في نَفْسِه، والوَجْهَانِ عنِ الزّجَّاجِ.

{وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَـاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ} [البقرة : 130] بيَانٌ لِخَطَأِ رَأْيِ مَنْ يَرغَبُ عَن مِلَّتِهِ لأنَّ مَن جَمَع كَرَامَةَ الدَّارَينِ لم يَكُنْ أَحَدٌ أَوْلَى بالرَّغْبَةِ في طَرِيقَتِهِ مِنهُ.

سني أهل السنة دروس دينية إسلامية ثقافة إسلامية تفسير قرآن تفسير سورة البقرة تفسير النسفي