تفسير سورة البقرة آية 151 - 152 - 153 - 154 - 155

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:

{ كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ } إمّا أنْ يتَعلَّقَ بِما قَبْلَهُ أيْ ولِأُتِمَّ نِعمَتيْ علَيكُم في الآخِرَةِ بالثَّوابِ كمَا أَتْمَمتُها علَيكُم في الدُّنيَا بإرسَالِ الرّسُولِ ، أو بما بَعْدَه أي كمَا ذَكّرتُكُم بإرسَالِ الرّسُولِ فَاذْكُرُوني بالطّاعَةِ أَذْكُرْكُم بالثَّوابِ ، فعَلَى هَذا يُوقَفُ على تَهتَدُونَ وعلى الأوّلِ لا.

{ رَسُولًا مِّنكُمْ } مِنَ العَرَبِ

{ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ } يَقرَأُ عَلَيكُم

{ ءَايَـاتِنَا } القُرآنَ

{ وَيُزَكِّيْكُمْ } قال الحافظُ ابنُ الجَوزيّ في تَفسِيره : وفي قَولِه تَعالى: ويُزكّيْهِم" ثَلاثَةُ أَقوَالٍ أحَدُها أنّ مَعنَاهُ يَأخُذُ الزّكَاةَ مِنهُم فيُطَهِّرُهُم بها، قالَهُ ابنُ عبّاسٍ والفَرّاءُ، والثّاني يُطَهّرُهُم مِنَ الشِّرْكِ والكُفْر قالَهُ مُقَاتِل، والثّالِثُ يَدعُوهُم إلى مَا يَصِيرُونَ بهِ أَزكِيَاء (أي صُلَحَاء).

{ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَـابَ } القُرآنَ

{ وَالْحِكْمَةَ } السُّنّةَ والفِقْهَ

{ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 151] مَا لا سَبِيلَ إلى مَعرِفَتِه إلا بالوَحْيِ.

{ فَاذْكُرُونِي } بالمعذِرَةِ ( قال ابنُ الجَوزيّ في تَفسِيرِه : قَولُه تَعالى "فاذْكُرُوني" قالَ ابنُ عَبّاسٍ وابنُ جُبَير: اذكُرُوني بطَاعَتي أذْكُرْكُم بمَغفِرَتي وقالَ إبراهيمُ بنُ السّريّ: كمَا أَنْعَمتُ علَيكُم بالرّسَالَةِ فَاذْكُرُوني بتَوحِيدِي وتَصدِيقِ نَبِيِّيْ)

{ أَذْكُرْكُمْ } بالْمَغفِرَةِ، أو بالثّنَاءِ والعَطَاءِ ، أو بالسُّؤالِ والنَّوَالِ ، أو بالتّوبَةِ وعَفْوِ الحَوبَةِ ، أو بالإخْلَاصِ والخَلاصِ ، أو بالْمُنَاجَاةِ والنَّجَاةِ.

{ وَاشْكُرُوا لِي } مَا أَنْعَمْتُ بهِ عَلَيكُم

{ وَلا تَكْفُرُونِ } [البقرة : 152] ولا تَجْحَدُوا نَعْمَائِي.

{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ } فِبِهِ تُنَالُ كُلُّ فَضِيلَةٍ

{ وَالصَّلَاةِ } فَإنّها تَنهَى عن كُلِّ رَذِيلَةٍ

{ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ } [البقرة : 153] بالنَّصْرِ والْمَعُونَةِ

{ وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } نَزَلَتْ في شُهَدَاءِ بَدْرٍ وكَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا.

{ أَمْوَاتٌ } أيْ هُم أَمْوَاتٌ

{ بَلْ أَحْيَآءٌ } أيْ هُم أَحْيَاءٌ

{ وَلَـكِنْ لا تَشْعُرُونَ } [البقرة : 154] لا تَعلَمُونَ ذَلكَ لأنّ حَيَاةَ الشَّهِيدِ لا تُعلَمُ حِسًّا.

عنِ الحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: أنّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ عندَ اللهِ تُعرَضُ أَرْزَاقُهُم علَى أَرْوَاحِهِم فَيَصِلُ إلَيهِمُ الرَّوْحُ والفَرَحُ كمَا تُعرَضُ النّارُ على أَرْوَاحِ آلِ فِرعَونَ غُدُوًّا وعَشِيًّا فَيَصِلُ إلَيهِمُ الوَجَعُ. (قال في لسان العرب: الرَّوْحُ بَرْدُ نَسِيمِ الرِّيْح والرَّوحُ أيضًا السُّرُورُ والفَرَحُ "فَرَوْحٌ ورَيْحَانٌ" أيْ رَحمَةٌ ورِزْقٌ)

وعَن مُجَاهِدٍ : يُرزَقُونَ ثَمرَ الجَنَّةِ ويَجِدُونَ رِيْحَها. (أَرْوَاحُهُم في الجَنَّةِ لَكِن لا يَحُلُّونَ في مُتَبَوَّئهم الذي يَسكُنُونَهُ في الآخِرَة)

(كَانَ عَالِمٌ يُقَالُ لهُ عبدُ الرّحمنِ بنُ القَاسِم قَبلَ نَحوِ سِتّمِائةِ سَنَةٍ هوَ وغَيرُه قُتِلُوا في المعركَةِ تُرِكُوا على الأرضِ، جَاءَ كَافِرٌ يَستَهزئ بالقُرءان يَقُولُ: أَنتُم تَقُولُونَ "ولا تَقُولُوا لمن يُقتَلُ في سَبِيلِ الله أمواتٌ بل أحيَاءٌ" فقَامَ واحِدٌ مِنهُم فقَرَأ الآيةَ فَارْتَعَبَ الكَافرُ لأنَّ اللهَ أَظْهَرَ صِدقَ القُرءان، هَذا الشّهِيدُ جَلَسَ فقَرأ الآيةَ ثم عادَ. "عندَ رَبّهم" مَعنَاهُ يَكُونُونَ مُكَرّمِينَ مَرضِيّيْن عندَ الله. الشَّهِيدُ لما يمُوتُ رُوحُه تَكُونُ في الجنّة، الرُّوحُ يَنفَصِلُ لَكن ليسَ كُلّيّا كالشّمسِ في السّمَاء وأَثَرُها في الأرضِ فهُم أَحْيَاءٌ وإنْ كانَتِ الهيئَةُ تَختَلِفُ. أَثَرُ الرُّوحِ فيهِ.)

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم } ولَنُصِيبَنَّكُم بذلكَ إصَابَةً تُشْبِهُ فِعْلَ الْمُختَبِرِ لأَحْوَالِكُم هَل تَصبِرُونَ على مَا أَنتُم علَيهِ مِنَ الطّاعَةِ أم لا.

{ بِشَىْءٍ } بقَلِيلٍ مِن كُلِّ واحِدَةٍ مِن هَذِه البَلَايا وطَرَفٍ مِنهُ.

وقَلَّلَ لِيُؤذِنَ أنَّ كُلَّ بَلاءٍ أصَابَ الإنسَان وإنْ جَلَّ ففَوقَهُ مَا يَقِلُّ إلَيهِم ، ويُرِيْهِم أنّ رَحمَتَه مَعَهُم في كُلِّ حَالٍ ، وأَعْلَمَهُم بوُقُوعِ البَلْوَى قَبْلَ وُقُوعِهَا لِيُوَطِّنُوا نُفُوسَهُم عَلَيْهَا.

{ مِّنَ الْخَوْفِ } خَوفِ اللهِ والعَدُوّ

{ وَالْجُوعِ } أيِ القَحْطِ ،أو صَومِ شَهرِ رَمضَانَ

{ وَنَقْصٍ مِّنَ الأمْوَالِ } بمَوتِ الْمَواشِي، أو الزّكَاة ، وهوَ عَطفٌ على شَيء ، أو على الخَوفِ، أيْ وشَيءٍ مِن نَقصِ الأموَال.

{ وَالأنفُسِ } بالقَتلِ والموت. أو بالْمَرَضِ والشَّيْب

{ وَالثَّمَرَاتِ } ثَمرَاتِ الحَرْثِ، أو مَوتِ الأولادِ لأنّ الوَلدَ ثَمرَةُ الفُؤادِ

{ وَبَشِّرِ الصَّـابِرِينَ } [البقرة : 155] على هَذه البَلايا، أو الْمُستَرجِعِينَ عندَ البَلايَا لأنّ الاستِرجَاعَ تَسلِيمٌ وإذعَانٌ، وفي الحديثِ: " مَن استَرجَعَ عِندَ المصِيبَةِ جَبَرَ اللهُ مُصِيبَتَهُ وأَحْسَنَ عُقبَاهُ وجَعَلَ لهُ خَلَفًا صَالِحًا يَرضَاهُ " رواه البيهقي والطبراني وابن جرير.

وطَفِىءَ سِرَاجُ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم فقال : "إنّا للهِ وإنّا إلَيهِ رَاجِعُونَ" فقِيلَ : أَمُصِيبَةٌ هِيَ ؟ قَال: " نَعَم كُلُّ شَيءٍ يُؤذِي المؤمِنَ فَهوَ مُصِيبَةٌ " رواه أبو داود.

والخِطَابُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ علَيهِ وسَلّمَ، أو لِكُلِّ مَنْ يَتَأَتّى مِنهُ البِشَارَةُ.

سني أهل السنة دروس دينية إسلامية ثقافة إسلامية تفسير قرآن تفسير سورة البقرة تفسير النسفي