تفسير سورة البقرة آية 74

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

74 - وَمَعْنَى ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ اسْتِبْعَادُ الْقَسْوَةِ (قال ابن الجوزي في تفسيره: قالَ إبرَاهِيمُ ابنُ السَّري قَسَتْ في اللُّغَةِ غَلُظَتْ ويَبِسَتْ وعَسَت فقَسوَةُ القَلبِ ذَهَابُ اللِّينِ والرّحمَةِ والخُشُوع مِنهُ، والقَاسِي والعَاسِي الشّدِيدُ الصَّلابَةِ)

مِنْ بَعْدِ مَا ذَكَرَ مِمَّا يُوجِبُ لَيْنَ الْقُلُوبِ وَرِقَّتَهَا، وَصِفَةُ الْقُلُوبِ بِالْقَسْوَةِ مَثَلٌ لِنَبْوِهَا عَنِ الِاعْتِبَارِ وَالِاتِّعَاظِ، مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى إِحْيَاءِ الْقَتِيلِ، أَوْ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ الْمَعْدُودَةِ، فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ فَهِيَ فِي قَسْوَتِهَا مِثْلُ الْحِجَارَةِ، أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً مِنْهَا. وَأَشَدُّ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِ، تَقْدِيرُهُ: أَوْ مِثْلُ أَشَدِّ قَسْوَةٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُقَامَهُ، أَوْ هِيَ فِي أَنْفُسِهَا أَشَدُّ قَسْوَةً، يَعْنِي: أَنَّ مَنْ عَرَفَ حَالَهَا شَبَّهَهَا بِالْحِجَارَةِ، أَوْ بِجَوْهَرٍ أَقْسَى مِنْهَا، وَهُوَ الْحَدِيدُ مَثَلًا، أَوْ مَنْ عَرَفَهَا شَبَّهَهَا بِالْحِجَارَةِ، أَوْ قَالَ: هِيَ أَقْسَى مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ أَقْسَى لِكَوْنِهِ أَبْيَنَ وَأَدَلَّ عَلَى فَرْطِ الْقَسْوَةِ، وَتُرِكَ ضَمِيرُ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْإِلْبَاسِ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ كَرِيمٌ، وَعَمْرٌو أَكْرَمُ، وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ بَيَانٌ لِزِيَادَةِ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ عَلَى الْحِجَارَةِ، لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ "مَا" بِمَعْنَى: الَّذِي، فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ، وَهُوَ اسْمُ إِنَّ، وَاللَّامُ لِلتَّوْكِيدِ، وَالتَّفَجُّرُ: التَّفَتُّحُ بِالسَّعَةِ وَالْكَثْرَةِ.

وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ أَصْلُهُ: يَتَشَقَّقُ، وَبِهِ قَرَأَ الْأَعْمَشُ، فَقُلِبَتِ التَّاءُ شِينًا، وَأُدْغِمَتْ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ يَعْنِي: أَنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ مَا فِيهِ خُرُوقٌ وَاسِعَةٌ يَتَدَفَّقُ مِنْهَا الْمَاءُ الْكَثِيرُ، وَمِنْهَا: مَا يَنْشَقُّ انْشِقَاقًا بِالطُّولِ، أَوْ بِالْعَرْضِ فَيَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ أَيْضًا، وَقُلُوبُهُمْ لَا تَنْدَى [لا تخشع]، وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ يَتَرَدَّى مِنْ أَعْلَى الْجَبَلِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ قِيلَ: هُوَ مَجَازٌ عَنِ انْقِيَادِهَا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا لَا تَمْتَنِعُ عَلَى مَا يُرِيدُ فِيهَا، وَقُلُوبُ هَؤُلَاءِ لَا تَنْقَادُ وَلَا تَفْعَلُ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ: حَقِيقَةُ الْخَشْيَةِ عَلَى مَعْنَى: أَنَّهُ يَخْلُقُ فِيهَا الْحَيَاةَ وَالتَّمْيِيزَ، وَلَيْسَ شَرْطُ خَلْقِ الْحَيَاةِ وَالتَّمْيِيزِ فِي الْجِسْمِ أَنْ يَكُونَ عَلَى بُنْيَةٍ مَخْصُوصَةٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: لَوْ أَنْـزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ الْآيَةُ [الْحَشْرُ: 21] يَعْنِي: وَقُلُوبُهُمْ لَا تَخْشَى.

(والصّوَابُ أنّ تِلكَ الحِجَارةَ صَارَ فِيهَا شُعُورٌ بخَشْيَةِ اللهِ. اللهُ تَعالى يَخلُق الشُّعُورَ في الجَمَادَاتِ لَكنّ البَشَرَ لا يَسْمَعُونَ تَسبِيحَ الجَمادَاتِ وبَعضَ الحيَوانَات، إلا أهلَ الخُصُوصيّةِ ومَن شاءَ اللهُ لهُ أنْ يَسمَعَ، ومما يَشهَدُ لذَلكَ ما حصَلَ لأبي مسلِمٍ الخَوْلانيّ رضي الله عنه، وهذه القِصّةُ فيهَا أنّ السُّبْحَةَ كانَت تَقُولُ: سُبحَانَكَ يا مُنبِتَ النّبَاتِ ويَا دَائمَ الثّبَاتِ، وقولهُا يا دائمَ الثّبَاتِ أي الذي وجُودُه أبَدِيٌّ أي لا يَفنى، ليسَ مَعناهُ السّكُونَ الذي هو مُقابِلُ الحرَكةِ لأنّ الحركةَ والسُّكونَ مِن صفاتِ الحَجْم، صِفاتُ الحَجْم كثيرةٌ، الحركةُ والسّكُونُ والاتّصَالُ والانفِصَالُ والاجتِمَاعُ والافتِراقُ واللَّونُ والحرَارةُ والبُرودَةُ والرّطُوبةُ واليُبُوسَةُ والتَّحَوُّلُ مِن صِفَةٍ إلى صفَةٍ والزّيادَةُ والنّقصَانُ، الحَجمُ يتَغَيّرُ وصِفاتُه تَتغَيّر، الإنسان حجْمٌ ولهُ صِفاتٌ عِلمٌ وقدرةٌ وإرادةٌ، وصِفَاتُ الإنسَانِ تَتَغَيَّرُ تَزِيدُ وتَنقُصُ ثمّ هيَ حَادِثَةٌ لَيسَتْ أَزليّةً لأنّ حَجمَ الإنسَانِ حَادِثٌ وصِفَاتِه حَادِثةٌ، اللهُ مُنَزّهٌ عن ذلكَ، اللهُ لَيسَ حَجمًا ولا يتَّصِفُ بصِفَاتِ الحَجْم، فالحَجمُ لطِيفُه وكَثِيفُه حَادِثٌ أي لم يَكُنْ مَوجُودًا ثم أخرجَهُ اللهُ مِنَ العدَم إلى الوجُودِ، فكَمَا أنّ الحَجْمَ ذاتُه حَادثٌ كذلكَ صِفاتُه حَادثةٌ تَتغَيَّر، فعِلمُ المخلُوق يَزِيدُ ويَنقُصُ وقَد يَذهَبُ بالمرّة، لآفةٍ منَ الآفاتِ يَذهَبُ عِلمُ الإنسَانِ بالمرّة، وأحيَانًا يَزيدُ وأحيَانًا يَنقُصُ، فاللهُ تَعالى ليسَ حَجمًا ولا يتَغيّرُ ولا يَنتَقِلُ مِن صِفَةٍ إلى صِفَةٍ ولا تَزِيدُ صِفَاتُه ولا تَنقُص).

وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَبِالْيَاءِ، مَكِّيٌّ. وَهُوَ وَعِيدٌ.

تفسير القرآن الكريم تفسير النسفي تفسير قرآن أهل السنة والجماعة تفسير قرآن كامل تفسير سورة البقرة آية 74