تفسير سورة الفاتحة آية 5 - 6

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ

5 - إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إِيَّا عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ اسْمٌ مُضْمَرٌ. وَالْكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَلَا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَعِنْدَ الْخَلِيلِ هُوَ اسْمٌ مُضْمَرٌ أُضِيفَ إِيَّا إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمُظْهَرَ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِيَّاكَ بِكَمَالِهَا اسْمٌ. وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ لِقَصْدِ الِاخْتِصَاصِ، وَالْمَعْنَى: نَخُصُّكَ بِالْعِبَادَةِ، وَهِيَ: أَقْصَى غَايَةِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَنَخُصُّكَ بِطَلَبِ الْمَعُونَةِ. وَعُدِلَ عَنِ الْغَيبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِلِالْتِفَاتِ، وَهُوَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَمِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَمِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يُونُسُ: 22] وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ [فَاطِرٌ: 9] وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

تَطَاوَلَ لَيْلُكِ بِالْأَثْمَدِ  وَنَامَ الْخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ

وَبَاتَ وَبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ  كَلَيْلَةِ ذِي الْعَائِرِ الْأَرْمَدِ

وَذَلِكَ مِنْ نَبَإٍ جَاءَنِي  وَخُبِّرْتُهُ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ

الْأَثْمَد أو الْأَثْمُد مكان بالجزيرة العربية

فَالْتَفَتَ فِي الْأَبْيَاتِ الثَّلَاثَةِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: لَيلِي، وَبِتُّ، وَجَاءَكَ، وَالْعَرَبُ يَسْتَكْثِرُونَ مِنْهُ، وَيَرَوْنَ الْكَلَامَ إِذَا انْتَقَلَ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ أَدْخَلَ فِي الْقَبُولِ عِنْدَ السَّامِعِ، وَأَحْسَنَ تَطْرِيَةً لِنَشَاطِهِ، وَأَمْلَأَ لاستِلذاذ إِصْغَائِهِ، وَقَدْ تَخْتَصُّ مَوَاقِعُهُ بِفَوَائِدَ وَلَطَائِفَ قَلَّمَا تَتَّضِحُ إِلَّا لِلْحُذَّاقِ الْمَهَرَةِ، وَالْعُلَمَاءِ النَّحَارِيرِ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. وَمِمَّا اخْتُصَّ بِهِ هَذَا الْمَوْضِعُ أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ الْحَقِيقُ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْعِظَامِ، تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِمَعْلُومِ عَظِيمِ الشَّأْنِ، حَقِيقٌ بِالثَّنَاءِ وَغَايَةِ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِعَانَةِ فِي الْمُهِمَّاتِ، فَخُوطِبَ ذَلِكَ الْمَعْلُومُ الْمُتَمَيِّزُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، فَقِيلَ: إِيَّاكَ يَا مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ نَعْبُدُ وَنَسْتَعِينُ لَا غَيْرَكَ. وَقُدِّمَتِ الْعِبَادَةُ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْوَسِيلَةِ قَبْلَ طَلَبِ الْحَاجَةِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ، أَوْ لِنَظْمِ الْآيِ كَمَا قُدِّمَ الرَّحْمَنُ. وَأُطْلِقَتِ الِاسْتِعَانَةُ لِتَتَنَاوَلَ كُلَّ مُسْتَعَانٍ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ وَبِتَوْفِيقِهِ عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: اهْدِنَا بَيَانًا لِلْمَطْلُوبِ مِنَ الْمَعُونَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ أُعِينُكُمْ ؟ فَقَالُوا:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

6 - اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أَيْ: ثَبِّتْنَا عَلَى الْمِنْهَاجِ الْوَاضِحِ، كَقَوْلِكَ لِلْقَائِمِ : قُمْ حَتَّى أَعُودَ إِلَيْكَ، أَيِ: اثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ. أَوِ: اهْدِنَا فِي الِاسْتِقْبَالِ كَمَا هَدَيْتِنَا فِي الْحَالِ. وَهَدَى يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ واحد بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا تَعَدِّيهِ إِلَى مَفْعُولٍ آخَرَ فَقَدْ جَاءَ مُتَعَدِّيًا إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ جَاءَ مُتَعَدِّيًا بِاللَّامِ وَبِإِلَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَدَانَا لِهَذَا [الْأَعْرَافُ: 43]، وَقَوْلِهِ: هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْأَنْعَامُ: 161]. وَالسِّرَاطُ: الْجَادَّةُ، مِنْ سَرَطَ الشَّيْءَ: إِذَا ابْتَلَعَهُ، كَأَنَّهُ يَسْرُطُ السَّابِلَةَ إِذَا سَلَكُوهُ. وَالصِّرَاطُ مِنْ قَلْبِ السِّينِ صَادًا ؛ لِتُجَانِسَ الطَّاءِ فِي الْإِطْبَاقِ ؛ لِأَنَّ الصَّادَ وَالضَّادَ وَالطَّاءَ وَالظَّاءَ مِنْ حُرُوفِ الْإِطْبَاقِ. وَقَدْ تُشَمُّ الصَّادُ صَوْتَ الزَّايِ ؛ لِأَنَّ الزَّايَ إِلَى الطَّاءِ أَقْرَبُ ؛ لِأَنَّهُمَا مَجْهُورَتَانِ. وَهِيَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ، وَالسِّينُ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَهي الْأَصْلُ فِي الْكَلِمَةِ. وَالْبَاقُونَ بِالصَّادِ الْخَالِصَةِ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَهِيَ الثَّابِتَةُ فِي المصحف الْإِمَامِ وهو الذي أبقاه سيدنا عثمان لنفسه في المدينة. وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ كَالطَّرِيقِ وَالسَّبِيلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ: طَرِيقُ الْحَقِّ، وَهُوَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ.

تفسير القرآن الكريم تفسير النسفي تفسير قرآن أهل السنة والجماعة تفسير قرآن كامل تفسير سورة الفاتحة آية 5 - 6