تفسير سُورَةُ الْكَوْثَرِ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

سُورَةُ الْكَوْثَرِ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَهِيَ ثَلاثُ ءَايَاتٍ

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3)

وَيُقَدَّرُ مُتَعَلَّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِعْلا أَوِ اسْمًا فَالْفِعْلُ كَأَبْدَأُ وَالاسْمُ كَابْتِدَائِي. وَكَلِمَةُ "اللَّه" عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُشْتَقٍّ.

الرَّحْمٰنُ مِنَ الأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاللَّهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ شَمِلَتْ رَحْمَتُهُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ فِي الآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/ 156]، وَالرَّحِيمُ هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب/ 43]، وَالرَّحْمٰنُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ لأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْنَى.

أَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَدِمَ كَعْبُ بنُ الأَشْرَفِ مَكَّةَ فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ أَنْتَ سَيِّدُهُمْ أَلا تَرَى إِلَى هَذَا الْمُنْصَبِرِ الْمُنْبَتِرِ مِنْ قَوْمِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَجِيجِ وَأَهْلُ السِّقَايَةِ وَأَهْلُ السِّدَانَةِ قَالَ أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُ فَنَزَلَتْ ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3)﴾.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)﴾ رَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِنَهْرٍ حَافَّتَاهُ قِبَابُ الدُّرِ الْمُجَوَّف قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ، فَإِذَا طِيبُهُ أَوْ طِينُهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ »، شَكَّ هَدَبَةُ بنُ خَالِدٍ.

وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ سُئِلَتْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)﴾: « هُوَ نَهْرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاطِئَاهُ عَلَيْهِ دُرٌّ مُجَوَّفٌ ءَانِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُومِ مَنْ جَهِلَ قَدْرَهُ هَتَكَ سِتْرَهُ ».

فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِالْحَوْضِ وَهُوَ مَكَانٌ أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِ شَرَابًا لأَهْلِ الْجَنَّةِ يَشْرَبُونَ مِنْهُ قَبْلَ دُخُولِهَا لَكِنْ بَعْدَ عُبُورِ الصِّرَاطِ فَلا يُصِيبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ظَمَأٌ وَإِنَّمَا يَشْرَبُونَ مِنْ شَرَابِ الْجَنَّةِ تَلَذُّذًا، ويُصَبُّ فِي الْحَوْضِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا وَالَّلفْظُ لِلْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ لَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لأُنَاوِلَهُمُ اخْتُلِجُوا دُونِي فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَصْحَابِي، يَقُولُ: لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ ». وَرَوَاهُ مَاِلكٌ بِزِيادَةِ: « فَأَقُولُ فَسُحْقًا فَسُحْقًا فَسُحْقًا ».

وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ أَغْفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُبْتَسِمًا فَقُلْنَا لِمَا ضَحِكْتَ فَقَالَ « أُنْزِلَتْ عَلَيَّ ءَانِفًا سُورَةً » فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ حَتَّى خَتَمَهَا وَقَالَ « هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ » فَقُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ « هُوَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ءَانِيَتُهُ عَدَدُ كَوَاكِبِ السَّمَاءِ يُخْتَلَجُوا الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ يَا رَبِّي إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي فَيُقَالُ لِي إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ » وَفِي الْحَدِيثِ فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْمُحَدِّثِينَ وَإِنْ قَالُوا بِعَدَالَةِ الصَّحَابَةِ فَمُرَادُهُمْ أَنَّهُمْ عُدُولُ الرِّوَايَةِ لأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لا يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ أَتْقِيَاءُ صَالِحُونَ إِذْ لَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَقَعُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي فِي ذَنْبٍ وَلا يُعَذَّبُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي قَبْرِهِ بَلْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ خِلافُ هَذَا، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خَادِمٍ لَهُ كَانَ مَوْكُولا إِلَيْهِ ثَقَلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ مَتَاعُهُ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ: « إِنَّهُ فِي النَّارِ »، وَكَانَ قَدْ غَلَّ شَمْلَةً وَهِيَ كِسَاءٌ صَغِيرٌ يُؤْتَزَرُ بِهِ أَخَذَهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ ثُمَّ أَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ.

﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)﴾ فَصَلِّ لِرَبِّكَ أَيْ صَلاةَ الْعِيدِ، وَقِيلَ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَقِيلَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْس وَانْحَرْ أَيِ اذْبَحْ يَوْمَ النَّحْرِ الذَّبَائِحَ وَهِيَ البُدْنُ جَمْعُ بَدَن وَهِيَ الإِبِلُ وَهِيَ خِيَارُ أَمْوَالِ الْعَرَبِ، وَتَصَدَّقْ عَلَى الْمَحَاوِيجِ خِلافًا لِمَنْ يَدُعُّهُمْ وَيَمْنَعُ عَنْهُمُ الْمَاعُونَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: « وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَانِئَكَ عَدُوَّكَ، وَالأَبْتَرُ الْمُنْقَطِعُ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ ».

سني أهل السنة دروس دينية إسلامية ثقافة إسلامية تفسير قرآن تفسير سورة كوثر تفسير سورة الكوثر تفسير جزء عم يتساءلون حوض نبي محمد