تفسير سُورَة المعارج

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

تفسير سورة المعارج آية 1 إلى 14 تفسير سورة المعارج آية 15 إلى 44

سورة المعارج مكية بالإجماع، وهي أربع وأربعون ءاية

وَيُقَدَّرُ مُتَعَلَّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِعْلا أَوِ اسْمًا فَالْفِعْلُ كَأَبْدَأُ وَالاسْمُ كَابْتِدَائِي. وَكَلِمَةُ "اللَّه" عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُشْتَقٍّ.

الرَّحْمٰنُ مِنَ الأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاللَّهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ شَمِلَتْ رَحْمَتُهُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ فِي الآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/ 156]، وَالرَّحِيمُ هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب/ 43]، وَالرَّحْمٰنُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ لأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْنَى.

﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)﴾ أي سأل سائل من الكفار عن عذاب الله بمن هو واقع ؟ ومتى يكون ؟ فقال الله تعالى مجيبًا لذلك السؤال:

﴿لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)﴾ أي على الكافرين، وقيل معنى الآية: دعا داع وطلب طالب عذابًا واقعًا للكافرين، وأخرج النسائي وغيره (تفسير النسائي [2/463]، والحاكم في المستدرك [2/502]) عن ابن عباس: ﴿سأل سائلٌ﴾ قال: "هو النضر بن الحارث، قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء"، فنزلت الآية، وقد قتل يوم بدر. وقرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر: "سال" بغير همز.

﴿ليسَ لهُ دافعٌ﴾ أي أن العذاب واقع بهم لا محالة سواء طلبوه أو لم يطلبوه إما في الدنيا بالقتل وإما في الآخرة لأن العذاب واقع بهم في الآخرة لا يدفعه عنهم دافع.

وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال: نزلت ﴿سألَ سائلٌ بعذابٍ واقع﴾ فقال الناس: على من يقع العذاب ؟ فأنزل الله: ﴿للكافرينَ ليسَ لهُ دافعٌ﴾.

﴿مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)﴾ أي بعذاب من الله، والمعنى ليس لذلك العذاب الصادر من الله للكافرين دافع يدفعه عنهم ﴿ذي المعارِجِ﴾ أي مصاعد الملائكة وهي السموات تعرج فيها الملائكة من سماء إلى سماء، وقيل ذي الفواضل والنّعم.

﴿تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)﴾ أي تصعد ﴿الملائكةُ والرُّوحُ﴾ هو جبريل عليه السلام، وإنما أُخر بالذكر وإن كان من جملة الملائكة لشرفه وفضل منزلته ﴿إليهِ﴾ أي إلى المكان المشرَّف الذي هو محلهم وهو في السماء لأن السماء مهبط الرحمات والبركات، وقيل: إلى عرشه، وليس معناها كما ذهبت المجسمة إلى أن الله تعالى يسكن العرش والعياذ بالله بل الله عزَّ وجلَّ منزه عن المكان والجهة، ولا يستلزم ورود لفظ إلى أن يكون المعنى مكانًا ينتهي وجود الله إليه فإن الله تعالى أخبر عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: ﴿إنِّّي ذاهبٌ إلى ربِّي سَيَهْدينِ﴾ أي إلى حيث أمرني ربي وكان ذهابه من العراق إلى الشام ولم يكن رب العزة قطعًا في الشام لما تقرر بالدلائل القاطعة من تنزه الله عن الجهات والأماكن وإنما دل لفظ إلى ربي على شرف المكان المقصود، وكذلك في قوله [إليه] في الآية المتقدمة.

وقرأ الكسائي: "يَعْرُجُ" بالياء.

﴿في يومٍ﴾ هو يوم القيامة ﴿كانَ مِقدارُهُ خمسينَ ألفَ سنةٍ﴾ أي من سِني الدنيا جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة من وقت البعث إلى أن يفصل بين الخلق، وهذا الطول في حق الكفار دون المؤمنين، وقيل في معنى هذه الآية إن عروج الملائكة من أسفل الأرض إلى العرش في وقت كان مقداره على غيرهم لو صَعِدَ خمسين ألف سنة.

روى أحمد (أخرجه أحمد في مسنده [3/75]) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)﴾ ما أطولَ هذا اليومَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخفَّ عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا". وروى أيضًا (أخرجه أحمد في مسنده [3/75]) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينصب للكافر يوم القيامة مقدار خمسين ألف سنة كما لم يعمل في الدنيا، وإن الكافر ليرى جهنمَ ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة".

واعلم أن من طال انتظاره في الدنيا للموت لشدة مقاساته للصبر عن الشهوات فإنه يقصر انتظاره في ذلك اليوم خاصة، فاحرص أن تكون من أولئك المؤمنين، فما دام يبقى لك نَفَسٌ من عمرك فالأمر إليك والاستعداد بيديك، فاعمل في أيام قصار لأيام طوال تربح ربحًا لا منتهى لسروره، واستحقر عمرك بل عمر الدنيا فإن صبرت عن المعاصي في الدنيا لِتَخلُصَ من عذاب يوم مقداره خمسون ألف سنة يكن ربحك كثيرًا وتعبك يسيرًا.

﴿فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5)﴾ أي يا محمد ﴿صبرًا جميلاً﴾ أي صبرًا لا جَزَعَ فيه ولا شكوى لغير الله، والمعنى: اصبر على أذى هؤلاء المشركين لك ولا يثنيك ما تلقى منهم من المكروه عن تبليغ ما أمرك ربك أن تبلغهم من الرسالة. قال ابن الجوزي: "قال المفسرون صبرًا لا جَزَع فيه، وزعم قوم منهم ابن زيد أن هذا كان قبل الأمر بالقوَنَرَاهُ قَرِيباً (7)تال ثم نسخ بآية السيف" اهـ.

﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6)﴾ أي إن هؤلاء المشركين ﴿يَرَونَهُ﴾ أي يَرَوْن العذاب أو يوم القيامة ﴿بعيدًا﴾ أي غيرَ كائن ولا واقع، وإنما أخبر الله عزَّ وجلَّ أنهم يرونه بعيدًا لأنهم كانوا لا يصدقون به وينكرون البعثَ بعد الممات والثوابَ والعقابَ.

﴿وَنَرَاهُ قَرِيباً (7)﴾ هذه النون نون المتكلم المعظم نفسه وهو الله سبحانه وتعالى، والمعنى: ونعلمه ﴿قريبًا﴾ وقوعُه أي واقعًا لا محالة، وكل ما هو ءات قريب.

﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)﴾ أي كعكرِ الزيت، وقيل: ما أُذيب من الرصاص والنحاس والفضة.

﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)﴾ أي كالصوف المصبوغ ألوانًا لأن الجبال مختلفة الألوان فإذا بست وطيرت في الجوّ أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح، شبهها في ضعفها ولينها بالصوف، وقيل: شبهها به في خفتها وسيرها.

﴿وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10)﴾ أي لا يسأل قريبٌ قريبَه عن شأنه لشغله بشأن نفسه لهول ذلك اليوم وشدته كما في قوله تعالى: ﴿يومَ يَفِرُّ المرءُ من أخيهِ  وأمِّهِ وأبيه  وصاحبتِهِ وبنيهِ  لكُلِّ امرئ منهُم يومئذٍ شأنٌ يُغنيهِ﴾ [سورة عبس]. وقرأ أبو جعفر: "ولا يُسأَلُ" بضم الياء.

﴿يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)﴾ أي يرونهم فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه لاشتغالهم بأنفسهم ﴿يَوَدُّ﴾ أي يتمنى ﴿المُجرمُ﴾ أي الكافر ﴿لو يَفتدي من عذابِ يومئذٍ﴾ أي من عذاب يوم القيامة بأعز من كان عليه في الدنيا من أقاربه فلا يقدر. ثم ذَكَرَهم الله فقال ﴿بِبَنيهِ﴾ أي أولاده ﴿وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12)﴾ أي زوجته ﴿وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُئْوِيهِ (13)﴾ أي عشيرته ﴿التي تُئويهِ﴾ أي تضمه ويأوي إليها.

﴿ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ (14)﴾ أي من الناس ﴿ثُمَّ يُنجِيهِ﴾ أي يخلّصه ذلك الفداء من عذاب الله، أي ويود الكافر لو فُدي بهم لافتدَى. بدأ الله عزَّ وجلَّ بذكر البنين ثم الصاحبة أي الزوجة ثم الأخ إعلامًا منه عبادَه أن الكافر من عظيم ما ينزل به يومئذ من البلاء لو وجد إلى ذلك سبيلاً بأحب الناس إليه كان في الدنيا وأقربِهم إليه نسبًا لفعل.

روى ابن حبان (أخرجه ابن حبان في صحيحه، انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان لابن بلبان [9/214-215]) عن عقبة بن عامر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تدنو الشمس من الأرض فيعرق الناس فمن الناس من يبلغ عرقه كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى نصف الساق، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى العَجُز، ومنهم من يبلغ إلى الخاصرة، ومنهم من يبلغ عنقه، ومنهم من يبلغ وسط فِيْه، وأشار بيده فألجم فاه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير هكذا، ومنهم يغطيه عرقه، وضرب بيده إشارة".

وروى ابن حبان (المصدر السابق [9/216]) أيضًا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الكافر ليُلجِمُه العرق يوم القيامة فيقول: أرحني ولو إلى النار".

فإذا كان هذا هو حال الكافر الذي ينادي ليدخله الله النار من شدة ما يجد من الألم والكرب من طول ذلك اليوم الذي يقف فيه للحساب فكيف به إذا دخل النار. وأما المؤمن التقي فيظله الله في ظل العرش حيث لا ظلَّ إلا ظله، نسأل الله السلامة في الدنيا والآخرة.

﴿كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى (15)﴾ ردع للمجرم ونفي لما يودُّه من الافتداء، وفي الآية دلالة على أن الافتداء لا ينجيه من عذاب الله، ثم ابتدأ الله عزَّ وجلَّ الخبر عما أعده للكافر يوم القيامة فقال: ﴿إنَّها﴾ أي النار ﴿لظى﴾ أي جهنم، سُميت لظى لأنها تتلظى أي تتلهب على الكافر.

﴿نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)﴾ جمع شواة وهي جلدة الرأس أي تنزع جلدة الرأس، وقيل: الشوى أطراف الإنسان كاليدين والرجلين، والمعنى قَلَّاعَةٌ للأعضاء الواقعة في أطراف الجسد ثم تعود كما كانت وهكذا أبدًا. وقرأ الجمهور: "نَزَّاعَةٌ" بالرفع على معنى: هي نزاعة، وقرأ حفص: "نَزَّاعَةًً" بالنصب.

﴿تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)﴾ يعني النار إلى نفسها حقيقة يخلق الله فيها الكلام كما يخلقه في الأعضاء ﴿مَنْ أدبَرَ﴾ في الدنيا عن طاعة الله ﴿وتَوَلَّى﴾ عن الإيمان بالله ورسوله، ودعاؤها أن تقول: إليَّ يا مشرك إليَّ يا كافر، تدعو الكافرين ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب.

﴿وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)﴾ أي جمع المال ﴿فأوعى﴾ أي جعله في وعائه ومنع منه حق الله تعالى.

﴿إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19)﴾ أريد به الجنس ولذلك استثنى منه بقوله: "إلا المصلين" ﴿خُلِقَ هَلوعًا﴾ الهلع في اللغة: أشد الحرص وأسوأ الجَزَع وأفحشه، وتفسير الآية ما بعدها وهو قوله تعالى: ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20)﴾ أي أصابه ﴿الشرُّ جزوعًا﴾ أي أظهر شدة الجزع فلم يصبر.

﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)﴾ أي إذا كَثُر ماله ونال الغنى فهو منوع لما في يديه بخيل به لا ينفقه في طاعة الله ولا يؤدي حق الله منه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شرُّ ما في رَجلٍ شحٌّ هالعٌ وجبنٌ خالعٌ" رواه أبو داود وغيره [أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الجهاد: باب في الجرأة والجبن]. قال الحافظ الفقيه محمد مرتضى الزبيدي الحنفي رحمه الله تعالى في شرح الإحياء ممزوجًا بالمتن ما نصه (إتحاف السادة المتقين [8/194]): "[شر ما في الرجل] أي من مساوئ أخلاقه [شح هالع] أي جازع يعني شح يحمل على الحرص على المال والجزع على ذهابه [وجبن خالع] أي شديد كأنه يخلع فؤاده من شدة خوفه من الخلق. قال العراقي: "رواه أبو داود من حديث أبي هريرة بسند جيد" انتهى قلت: ورواه كذلك البخاري في التاريخ والحكيم في النوادر وابن جرير في التهذيب والبيهقي في الشعب، وقال ابن طاهر: إسناده متصل" انتهى كلام الزبيدي. 

﴿إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22)﴾ وهم أهل الإيمان بالله، وهذا استثناء ولذلك وصفهم بما وصفهم به من الصبر على المكاره والصفات الجميلة والمعنى: إلا الذين يطيعون الله بأداء ما افترض عليهم من الصلاة.

﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)﴾ أي الصلاة المفروضة التي فرضها الله على عباده ﴿دائمونَ﴾ أي مواظبون عليها في أوقاتها لا يتركونها.

﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)﴾ يعني الزكاة المفروضة.

﴿لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)﴾ المحتاج الذي يسأل الناس لفاقته ﴿والمحرومِ﴾ أي المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئًا ولا يُعلِم الناس بحاجته، وقيل غير ذلك.

﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)﴾ أي يؤمنون ويعتقدون اعتقادًا جازمًا ﴿بيومِ الدينِ﴾ وهو يوم القيامة أي يصدقون بالبعث والحشر والجزاء والحساب.

﴿وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27)﴾ أي والذين هم في الدنيا من عذاب ربهم خائفون أن يعذبهم الله في الآخرة، فهم من خشية ذلك لا يضيعون له فرضًا ولا يتعدون له حدًّا.

﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)﴾ أي لا ينبغي لأحد أن يأمنه بل يكون بين الخوف والرجاء يخاف عذاب ربه ويرجو رحمته.

﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29)﴾ أي يحفظونها عن المحرمات كالزنى ونحوه. روى البخاري في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يَضمن لي ما بين لَحيَيْهِ وما بين رجليه أضمَن له الجنة". [أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق: باب حفظ اللسان]

﴿إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)﴾ أي إلا من نسائهم اللاتي أحل الله لهم ﴿أو ما ملَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ يعني الإماء المملوكات بالطريق الشرعي ﴿فإنَّهُم غيرُ مَلومينَ﴾ يعني بعدم حفظ فرجه من امرأته وأمته اللتين أحل الله له الاستمتاع بهن بالجماع وغيره فإنه لا يلام على ذلك.

﴿فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (31)﴾ أي من التمس وطلب منكِحًا سوى زوجته أو ملك يمينه وهي الأمة المملوكة بالطريق الشرعي ﴿فأولئكَ هُمُ العادونَ﴾ أي الظالمون المجاوزون الحد من الحلال إلى الحرام.

﴿وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)﴾ أي لأمانات الله التي ائتمنهم عليها من قول وفعل واعتقاد فيدخل في ذلك جميع الواجبات من الأفعال والتروك فيجب الوفاء بجميعها، وأمانات عباده التي ائتمنوا عليها بالقيام عليها لحفظها إلى أن تؤدى ﴿وعَهْدِهِمْ﴾ أي عهودِ الله التي أخذها عليهم بطاعته فيما أمرهم به ونهاهم، وعهودِ عباده لما عاهدوا عليه غيرهم ﴿راعونَ﴾ أي حافظون، يحفظونه فلا يضيعونه ولكنهم يؤدونها ويتعاهدونها على ما ألزمهم الله وأوجب عليهم حفظها.

وقرأ ابن كثير وحده: "لأمانتهم".

﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)﴾ أي لا يكتمون ما استُشهدوا عليه ولكنهم يقومون بأدائها غير مغيَّرة ولا مبدَّلة، وهذه الشهادة من جملة الأمانات إلا أنه خصها بالذكر لفضلها لأن بها تحيا الحقوق وتظهر في تركها وتضيع.

وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: "بشهادتهم"، وقرأ حفص عن عاصم: "بشهاداتهم".

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)﴾ أي يؤدون الصلوات الخمسَ المفروضة في وقتها مع الإتيان بشروطها وأركانها.

﴿أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)﴾ يعني من هذا صفته ﴿في جنَّاتٍ مُكرمون﴾ أي يكرمهم الله بكرامته.

﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36)﴾ أي فما بال الذين كفروا ﴿قِبَلَكَ﴾ أي نحوك يا محمد ﴿مُهْطِعينَ﴾ أي مسرعين في التكذيب لك، وقيل: يُسرعون إلى السماع منك لِيَعيبوك ويستهزءوا بك، وقيل: مسرعين عليك مادّين أعناقهم مدمني النظر إليك وذلك من نظر العدو.

﴿عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)﴾ أي عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن شماله ﴿عِزينَ﴾ متفرقين حلقًا ومجالس جماعة جماعة معرضين عنك وعن كتاب الله.

﴿ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)﴾ أي أيطمع كل رجل من هؤلاء الذين كفروا أن يدخل الجنة كما يدخلها المسلمون ويتنعم فيها.

﴿كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)﴾ ردٌّ وردع لطماعيتهم والمعنى لا يدخلون الجنة ﴿إنَّا خلقناهُم ممَّا يَعلمونَ﴾ أي أنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة كما خلق سائر جنسهم، فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة وإنما تُستوجَب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى.

﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40)﴾ أي أقسم ﴿بربِّ المشارِقِ﴾ أي مطالع الشمس ﴿والمغاربِ﴾ أي مغاربها والمراد بالمشارق والمغارب: شرقُ كل يوم ومغربُهُ ﴿عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)﴾ أي إنا لقادرون على إهلاكهم وعلى أن نخلق أمثل منهم وأطوع لله ﴿وما نحنُ بِمَسبوقين﴾ أي بمغلوبين عاجزين عن إهلاكهم وإبدالهم بمن هو خير منهم، فلا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده.

﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)﴾ أي دع المكذبين واتركهم وهذا اللفظ أمر معناه الوعيد ﴿يخوضوا﴾ في باطلهم ﴿ويلعبوا﴾ أي يلهوا في دنياهم، ﴿حتى يُلاقوا يومَهُم الذي يُوعدونَ﴾ أي حتى يلاقوا عذاب يوم القيامة الذي يوعدونه.

قال ابن الجوزي: "زعم بعض المفسرين أنها منسوخة بآية السيف، وإذا قلنا إنه وعيد بلقاء القيامة فلا وجه للنسخ" اهـ.

﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)﴾ أي القبور ﴿سِراعًا﴾ أي مسرعين حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي، والمعنى: يخرجون من القبور مسرعين إلى المحشر ﴿كأنَّهُم إلى نُصُبٍ﴾ أي الأصنام التي كانوا يعبدونها ﴿يُوفِضُون﴾ أي يسرعون، ومعنى الآية: أنهم يخرجون من الأجداث وهي القبور مسرعين إلى الداعي مُسْتَبِقِينَ إليه كما كانوا يستبقون إلى نصبهم ليستلموها، والأنصاب هي التي كان أهل الجاهلية يعبدونها ويأتونها ويعظمونها.

وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: "نُصُبٍ" بضم النون والصاد، وقرأ الباقون: "نَصْبٍ" بفتح النون وإسكان الصاد، وهي في معنى القراءة الأولى.

﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)﴾ أي ذليلة خاضعة لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله ﴿تَرهقُهُم ذِلَّةٌ﴾ أي يغشاهم الهوان ﴿ذلكَ اليومُ﴾ وهو يوم القيامة ﴿الذي كانوا يُوعَدونَ﴾ به في الدنيا أن لهم فيه العذاب.

سني أهل السنة دروس دينية إسلامية ثقافة إسلامية تفسير قرآن تفسير سورة المعارج تفسير سورة معارج تفسير جزء تبارك تفسير المعارج