تفسير سورة النازعات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

تفسير سورة النَّازِعَاتِ آية 1 إلى 14 تفسير سورة النَّازِعَاتِ آية 15 إلى 46

سُورَةُ النَّازِعَاتِ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَهِيَ سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ ءَايَةً

وَيُقَدَّرُ مُتَعَلَّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِعْلا أَوِ اسْمًا فَالْفِعْلُ كَأَبْدَأُ وَالاسْمُ كَابْتِدَائِي. وَكَلِمَةُ "اللَّه" عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُشْتَقٍّ.

الرَّحْمٰنُ مِنَ الأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاللَّهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ شَمِلَتْ رَحْمَتُهُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ فِي الآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/ 156]، وَالرَّحِيمُ هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب / 43]، وَالرَّحْمٰنُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ لأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْنَى.

أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ هَذِهِ الأَشْيَاءِ الَّتِي يَذْكُرُهَا عَلَى أَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)﴾ النَّازِعَاتُ هِيَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِعُ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ، وَغَرْقًا أَيْ نَزْعًا بِشِدَّةٍ.

﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)﴾ أَيِ الْمَلائِكَةُ تَنْشِطُ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ بِقَبْضِهَا، أَيْ تَسُلُّهَا بِرِفْقٍ.

﴿وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)﴾ هِيَ الْمَلائِكَةُ تَتَصَرَّفُ فِي الآفَاقِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَجِيءُ وَتَذْهَبُ.

﴿فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)﴾ هِيَ الْمَلائِكَةُ تَسْبِقُ بِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ.

﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)﴾ هُمُ الْمَلائِكَةُ يُدَبِّرُونَ أُمُورَ الْمَطَرِ وَالسَّحَابِ وَالنَّبَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ الْمَلائِكَةَ عَنِ التَّأْنِيثِ وَعَابَ قَوْلَ الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالَ: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمٰنِ إِنَاثًا﴾ [سُورَةَ الزُّخْرُف / ءَايَة 19].

وَالْمُرَادُ الأَشْيَاءُ ذَاتُ النَّزْعِ وَالأَشْيَاءُ ذَاتُ النَّشْطِ وَالسَّبْحُ وَالتَّدْبِيرُ وَهَذَا الْقَدْرُ لا يَقْتَضِي التَّأْنِيث.

وَمِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَجَوَابُ مَا عُقِدَ لَهُ الْقَسَمُ مُضْمَرٌ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ لَوْ أُظْهِرَ: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُحَاسَبُنَّ، فَاسْتَغْنَى- أَيِ اللَّهُ تَعَالَى- بِفَحْوَى الْكَلامِ وَفَهْمِ السَّامِعِ عَنْ إِظْهَارِهِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: الْخَالِقُ يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَالْمَخْلُوقُ لا يُقْسِمُ إِلا بِالْخَالِقِ، وَاللَّهُ أَقْسَمَ بِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ لِيُعَرِّفَهُمْ قُدْرَتَهُ لِعُظْمِ شَأْنِهَا عِنْدَهُمْ وَلِدِلالَتِهَا عَلَى خَالِقِهَا وَلَتَنْبِيهِ عِبَادِهِ عَلَى أَنَّ فِيهَا مَنَافِعَ لَهُمْ كَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي : « قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ مَعْصِيَةً - وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً-، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالْكَرَاهَةِ، وَجَزَمَ غَيْرُهُ بِالتَّفْصِيلِ، فَإِنِ اعْتَقَدَ فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي اللَّهِ حَرُمَ الْحَلِفُ بِهِ وَكَانَ بِذَلِكَ الِاعْتِقَادِ كَافِرًا وَعَلَيْهِ يَتَنَزَّلُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ- يُرِيدُ حَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ: « مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ » وَأَمَّا إِذَا حَلَفَ بِغَيْر اللَّهِ لاعْتِقَادِهِ تَعْظِيمَ الْمَحْلُوفِ بِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ فَلا يَكْفُرُ بِذَلِكَ وَلا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ ».

﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)﴾ الرَّاجِفَةُ: هِيَ النَّفْخَةُ الأُولَى، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَبِهَا تَتَزَلْزَلُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ.

﴿تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)﴾ الرَّادِفَةُ: هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّفْخَتَانِ هُمَا الصَّيْحَتَانِ أَمَّا الأُولَى فَتُمِيتُ كُلَّ شَىْءٍ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأَمَّا الثَّانِيَّةُ فَتَتْبَعُ الأُولَى وَتُحْيِي كُلَّ شَىْءٍ بِإِذْنِ اللَّهِ.

﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)﴾ هِيَ قُلُوبُ الْكُفَّارِ تَكُونُ شَدِيدَةَ الْخَوْفِ وَالاضْطِرَابِ مِنَ الْفَزَعِ.

﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)﴾ أَيْ أَبْصَارُ أَصْحَابِ هَذِهِ الْقُلُوبِ ذَلِيلَةٌ مِنْ هَوْلِ مَا تَرَى.

﴿يَقُولُونَ﴾ أَيْ أَصْحَابُ الْقُلُوبِ وَالأَبْصَارِ اسْتِهْزَاءً وَإِنْكَارًا لِلْبَعْثِ. ﴿أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُونَ أَنُرَدُّ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ، أَيْ فِي الْقُبُورِ، قَالُوهُ عَلَى جِهَةِ الاسْتِبْعَادِ لِحُصُولِهِ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ: "أَئِنَّا" بِهَمْزَتَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ عَلَى الاسْتِفْهَامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ الأُولَى وَتَلْيِينِ الثَّانِيَةِ.

﴿أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً (11)﴾ أَيْ عِظَامًا بَالِيَةً مُتَفَتِّتَةً، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَمُرَادُ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ هُوَ: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا مُتَفَتِّتَةً بَالِيَةً نُحْيَا ؟ إِنْكَارًا وَتَكْذِيبًا بِالْبَعْثِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: "نَاخِرَةً" قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي اللُّغَةِ.

﴿قَالُوا تِلْكَ﴾ أَيْ قَالَ الْكُفَّارُ: تِلْكَ، أَيْ رَجْعَتُنَا إِلَى الْحَيَاةِ. ﴿إِذًا﴾ أَيْ إِنْ رُدِدْنَا. ﴿كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)﴾ أَيْ نَحْنُ خَاسِرُونَ لِتَكْذِيبِنَا بِهَا، قَالُوا ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ وَتَكْذِيبًا بِالْبَعْثِ، أَيْ -عَلَى زَعْمِهِمْ-، لَوْ كَانَ هَذَا حَقًّا لَكَانَتْ رَدَّتُنَا خَاسِرَةً إِذْ هِيَ إِلَى النَّارِ.

﴿فَإِنَّمَا هِيَ﴾ أَيِ الرَّادِفَةُ وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي يَعْقُبُهَا الْبَعْثُ. ﴿زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13)﴾ أَيْ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ يَحْيَا بِهَا الْجَمِيعُ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بنُ أَنَسٍ. وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ سُهُولَةَ الْبَعْثِ عَلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا صَعْبًا عَلَيْهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: ﴿أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ﴾ يَتَضَمَّنُ اسْتِبْعَادَ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ وَاسْتِصْعَابَ أَمْرِهَا فَرَدَّ اللَّهُ قَوْلَهُمْ.

﴿فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (14)﴾ أَيْ فَإِذَا الْخَلائِقُ أَجْمَعُونَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي بَطْنِهَا أَمْوَاتًا، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: « تُبَدَّلُ الأَرْضُ أَرْضًا كَأَنَّهَا فِضَّةٌ لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ حَرَامٌ وَلَمْ يُعْمَلْ عَلَيْهَا خَطِيئَةٌ »، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: « أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ ».

﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)﴾ قاَلَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: قَدْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ وَبَلَغَكَ قِصَّةُ مُوسَى وَتَمَرُّدُ فِرْعَوْنَ وَمَا ءَالَ إِلَيْهِ حَالُ مُوسَى مِنَ النَّجَاةِ وَحَالُ فِرْعَوْنَ مِنَ الْهَلاكِ وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبْشِيرٌ بِنَجَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَهَلاكِهِمْ.

﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)﴾ قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ وَادٍ بِفِلَسْطِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاسْمُهُ طُوَى، وَالْمُقَدَّسُ أَيِ الْمُبَارَكُ الْمُطَهَّرُ.

الله تبارك وتعالى مُتكلمٌ بكلامٍ أزليٍ أبديٍ لا يُشبِهُ كلامَ المخلوقيَن ليس لِكلامِه ابتداء، ليس له انتهاء، لا يطرأ عليه سُكوتٌ أو تَقطّع لأنه ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغةً وأمَّا كلامُ المخلوقين فهو بِحرفٍ وصوتٍ وبالآلات. قال تعالى: ﴿ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾، أَيْ أَسْمَعَ اللهُ مُوسى كَلامَهُ الأَزَلِيَّ الأَبَدِيَّ الَّذِي لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ. أزال اللهُ المانعَ عن سمع موسى، فسَمِعَ كلامَ اللهِ منْ غير أن يَحُلَّ الكلامُ الأزليُّ في أُذن موسى، فموسى عليه السلام حادثٌ وسمعُه مخلوق وأمّا مسموعهُ وهو كلام الله فليس بحادثٍ.

قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه: « وَالله يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمٍ لاَ يُشْبِهُ كَلاَمَنَا نَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِالآلاتِ مِنَ المخَارِجِ وَالحُرُوفِ وَالله مُتَكَلِّمٌ بِلاَ آلَةٍ وَلاَ حَرْفٍ ».

﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)﴾ أَيْ أَنَّ فِرْعَوْنَ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْكُفْرِ وَفِرْعَوْنُ هُوَ لَقَبُ الْوَلِيدِ بنِ مُصْعَبٍ مَلِكِ مِصْرَ، وَكُلُّ عَاتٍ فِرْعَوْن قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَالْفَرْعَنَةُ: الدَّهَاءُ وَالتَّكَبُّرُ.

﴿فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)﴾ أَيْ أَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تُسْلِمَ وَتَعْمَلَ خَيْرًا وَتَتَحَلَّى بِالْفَضَائِلِ وَتَتَطَهَّرَ مِنَ الرَّذَائِلِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ: « تَزَّكَّى » بِتَشْدِيدِ الزَّايِ.

﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)﴾ أَيْ أُرْشِدَكَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْبُرْهَانِ فَتَخَافَهُ عَزَّ وَجَلَّ فَتُؤَدِّيَ الْوَاجِبَاتِ وَتَجْتَنِبَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَفِي الآيَةِ دِلالَةٌ عَلَى أَنَّ الإِيـمَانَ بِاللَّهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَمَلِ بِسَائِرِ الطَّاعَاتِ لأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْهِدَايَةَ أَوَّلا وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ مُؤَخَّرَةً عَنْهَا وَمُفَرَّعَةً عَلَيْهَا.

﴿فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (20)﴾ أَيْ فَذَهَبَ مُوسَى وَبَلَّغَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ فَطَلَبَ فِرْعَوْنُ ءَايَةً فَأَرَاهُ -أَيْ مُوسَى- الآيَةَ الْكُبْرَى أَيِ الْعَلامَةَ الْعُظْمَى، رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَعَالِيقِهِ: قَالَ مُجَاهِدٌ: « الآيَةُ الْكُبْرَى عَصَاهُ وَيَدُهُ ».

﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى (21)﴾ أَيْ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَذَّبَ مُوسَى وَعَصَى اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مُوسَى فِيمَا أَتَى بِهِ.

﴿ثُمَّ أَدْبَرَ﴾ أَيْ فِرْعَوْنُ وَلَّى مُدْبِرًا مُعْرِضًا عَنِ الإِيـمَانِ ﴿يَسْعَى (22)﴾ أَيْ يَعْمَلُ بِالْفَسَادِ فِي الأَرْضِ وَيَجْتَهِدُ فِي نِكَايَةِ أَمْرِ مُوسَى.

﴿فَحَشَرَ فَنَادَى (23)﴾ أَيْ جَمَعَ السَّحَرَةَ لِلْمُعَارَضَةِ وَجُنُودَهُ وَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا وَقَالَ لَهُمْ بِصَوْتٍ عَالٍ.

﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (24)﴾ يُرِيدُ فِرْعَوْنُ لا رَبَّ لَكُمْ فَوْقِي، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.

﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25)﴾ أَيْ أَخَذَهُ اللَّهُ أَخْذًا هُوَ عِبْرَةٌ لِمَنْ رَءَاهُ أَوْ سَمِعَهُ، وَعَاقَبَهُ عَلَى كَلِمَتِهِ الأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ وَكَلِمَتِهِ الآخِرَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾، وَكَانَ بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَهُ بِالْغَرَقِ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الآخِرَةِ يُعَذَّبُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَنْ يَخْشَى (26)﴾ أَيْ أَنَّ الَّذِي جَرَى لِفِرْعَوْنَ فِيهِ عِظَةٌ لِمَنْ يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.

﴿ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)﴾ يُرِيدُ اللَّهُ بِهَذَا الْخِطَابِ أَهْلَ مَكَّةَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، وَالْكَلامُ يَجْرِي مَجْرَى التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ وَالاسْتِدْلالِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ، وَالْمَعْنَى أَخَلْقُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ مَعَ ضَعْفِ الإِنْسَانِ أَشَدُّ أَمْ خَلْقُ السَّمَاءِ فِي تَقْدِيرِكُمْ مَعَ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ دَيْمُومِيَّةِ بَقَائِهَا وَعَدَمِ تَأَثُّرِهَا إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، فَنِسْبَةُ الأَمْرَيْنِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ لأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَامَّةٌ لا يَلْحَقُهَا عَجْزٌ وَلا نَقْصٌ. ثُمَّ يَصِفُ اللَّهُ السَّمَاءَ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهَا فَوْقَنَا كَالْبِنَاءِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:

﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مِقْدَارَ ذَهَابِهَا فِي الْعُلُوِّ مَدِيدًا رَفِيعًا مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَكَذَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ إِلَى سَبْعِ سَمَوَاتٍ. وَالسَّمْكُ: هُوَ الارْتِفَاعُ الَّذِي بَيْنَ سَطْحِ السَّمَاءِ الَّذِي يَلِينَا وَسَطْحِهَا الَّذِي يَلِي مَا فَوْقَهَا، قَالَهُ الْمُفَسِّرُ أَبُو حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِهِ النَّهْرِ الْمَادِّ. وَمَعْنَى "فَسَوَّاهَا" أَيْ جَعَلَهَا مَلْسَاءَ مُسْتَوِيَةً بِلا عَيْبٍ لَيْسَ فِيهَا مُرْتَفَعٌ وَلا مُنْخَفَضٌ مُحْكَمَةَ الصُّنْعَةِ مُتْقَنَةَ الإِنْشَاءِ.

﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)﴾ أَغْطَشَ لَيْلَهَا: أَيْ أَظْلَمَ لَيْلَهَا، وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا: أَيْ أَبْرَزَ نَهَارَهَا وَضَوْءَ شَمْسِهَا، وَأَضَافَ الضُّحَى إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّ فِي السَّمَاءِ سَبَبَ الظَّلامِ وَالضِّيَاءِ وَهُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ وَطُلُوعُهَا، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

﴿وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الأَرْضَ قَبْلَ السَّمَاءِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ثُمَّ دَحَا اللَّهُ الأَرْضَ أَيْ بَسَطَهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)﴾ أَيْ أَخْرَجَ مِنَ الأَرْضِ الْعُيُونَ الْمُتَفَجِّرَةَ بِالْمَاءِ وَالنَّبَاتَ الَّذِي يُرْعَى.

﴿وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)﴾ أَيْ أَثْبَتَهَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ لِتَسْكُنَ.

﴿مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ ذَلِكَ لِمَنْفَعَتِكُمْ وَمَوَاشِيكُمْ، وَالأَنْعَامُ وَالنَّعَمُ الإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي تَحْرِيرِ أَلْفَاظِ التَّنْبِيهِ.

﴿فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)﴾ قَدْ مَرَّ بَيَانُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لِيُسْتَدَلَ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى النَّشْرِ وَالْحَشْرِ، فَلَمَّا قَرَّرَ ذَلِكَ وَبَيَّنَ إِمْكَانَ الْحَشْرِ عَقْلا أَخْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ وُقُوعِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى﴾ قَالَ الْمُبَرِّدُ: الطَّامَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الدَّاهِيَةُ الَّتِي لا تُسْتَطَاعُ، وَالْمُرَادُ بِالطَّامَّةِ الْكُبْرَى: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، عَظَّمَهُ اللَّهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى (35)﴾ أَيْ ذَاكَ الْيَوْم يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا عَمِلَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ يَرَاهُ مُدَوَّنًا فِي صَحِيفَتِهِ وَكَانَ قَدْ نَسِيَهُ مِنْ فَرْطِ الْغَفْلَةِ أَوْ طُولِ الْمُدَّةِ.

﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (36)﴾ أَيْ أُظْهِرَتْ جَهَنَّمُ يَرَاهَا تَتَلَظَّى كُلُّ ذِي بَصَرٍ فَيَشْكُرُ الْمُؤْمِنُ نِعْمَةَ اللَّهِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاذ: «لِمَنْ رَأَى» بِهَمْزَةٍ بَيْنَ الرَّاءِ وَالأَلِفِ.

﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37)﴾ أَيْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْعِصْيَانِ وَالْكُفْرِ.

﴿وَءَاثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38)﴾ أَيِ انْهَمَكَ فِيهَا بِاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَالرُّكُونِ إِلَيْهَا وَتَرْكِ الاسْتِعْدَادِ لِلآخِرَةِ.

﴿فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)﴾ أَيْ أَنَّ جَهَنَّمَ هِيَ مَأْوَى مَنْ طَغَى وَءَاثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.

﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ أَيْ حَذِرَ مَقَامَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ. ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)﴾ أَيْ زَجَرَهَا عَنِ الْمَعَاصِي وَالْمُحَرَّمَاتِ.

﴿فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾ أَيْ أَنَّ مَنْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَإِنَّ مَنْزِلَهُ الْجَنَّةُ.

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42)﴾ أَيْ يَسْأَلُكَ كُفَّارُ مَكَّةَ مَتَى وُقُوعُ السَّاعَةِ وَزَمَانُهَا اسْتِهْزَاءً.

﴿فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43)﴾ أَيْ فِيمَ يَسْأَلُكَ الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا وَلَسْتَ مِمَّنْ يَعْلَمُهَا حَتَّى تَذْكُرَهَا لَهُمْ، وَفِيهِ إِنْكَارٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي مَسْأَلَتِهِمْ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ.

﴿إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)﴾ أَيْ إِلَى اللَّهِ مُنْتَهَى عِلْمِ السَّاعَةِ فَلا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِ عِلْمُ وَقْتِهَا وَزَمَنِهَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ [سُورَةَ لُقْمَان / 34].

﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)﴾ أَيْ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِإِنْذَارِكَ يَا مُحَمَّدُ وَتَخْوِيفِكَ مَنْ يَخَافُ هَوْلَهَا فَيَمْتَنِعُ عَنِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ مُنْذِرًا لِكُلِّ مُكَلَّفٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: «مُنْذِرٌ» بِالتَّنْوِينِ.

﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً﴾ أَيْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ يَرَوْنَ الآخِرَةَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا فِي الدُّنْيَا إِلا قَدْرَ عَشِيَّةٍ، وَالْعَشِيَّةُ مَنْ صَلاةِ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعَتَمَةِ، قَالَهُ الرَّازِيُّ فِي مُخْتَارِ الصَّحَاحِ. ﴿أَوْ ضُحَاهَا (46)﴾ وَهُوَ حِينَ تُشْرِقُ الشَّمْسُ، قَالَهُ الْحَافِظُ اللُّغَوِيُّ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الدُّنْيَا ذَاكَ الْوَقْتَ تَتَصَاغَرُ عِنْدَ الْكُفَّارِ وَتَقِلُّ فِي أَعْيُنِهِمْ.

سني أهل السنة دروس دينية إسلامية ثقافة إسلامية تفسير قرآن تفسير سورة النازعات تفسير عم يتساءلون تفسير جزء عم يتساءلون