تفسير سورة الناس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

سُورَةُ النَّاسِ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ جَابِرٍ وَعَطَاءٍ وَمَدَنِيَّةٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهِيَ سِتُّ ءَايَاتٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

وَيُقَدَّرُ مُتَعَلَّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِعْلا أَوِ اسْمًا فَالْفِعْلُ كَأَبْدَأُ وَالاسْمُ كَابْتِدَائِي. وَكَلِمَةُ "اللَّه" عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُشْتَقٍّ.

الرَّحْمٰنُ مِنَ الأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاللَّهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ شَمِلَتْ رَحْمَتُهُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ فِي الآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف آية 156]، وَالرَّحِيمُ هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب آية 43]، وَالرَّحْمٰنُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ لأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْنَى.

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)

قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)﴾ ﴿قُلْ﴾ أَيْ يَا مُحَمَّدُ وَ﴿أَعُوذُ﴾ أَسْتَجِيرُ بِرَبِّ النَّاسِ أَيْ مَالِكِهِمْ وَخَالِقِهِمْ، قَالَ الْعِزُّ ابْنُ عَبْدِ السَّلامِ: «لَمَّا أَمَرَ بِالاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِمْ أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعِيذُ مِنْهُمْ».

وَلَمَّا كَانَ فِي النَّاسِ مُلُوكٌ قَالَ تَعَالَى ﴿مَلِكِ النَّاسِ (2)﴾ وَلَمَّا كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى ﴿إِلَهِ النَّاسِ (3)﴾ أَيْ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ، فَهُوَ مَالِكُ الْمُلْكِ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ لا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلا هُوَ، وَالْعِبَادَةُ: هِيَ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ، وَقَالَ اللُّغَوِيُّ النَّحْوِيُّ الْمُفَسِّرُ الإِمَامُ الْحُجَّةُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الْكَافِي السُّبْكِيُّ فِي الْفَتَاوَى: «الْعِبَادَةُ أَقْصَى غَايَةِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ».

﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)﴾ أَيْ مِنْ شَرِّ ذِي الْوَسْوَاسِ وَهُوَ الشَّيْطَانُ، وَالْوَسْوَسَةُ: حَدِيثُ النَّفْسِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوَسْوَاسُ إِذَا وُلِدَ يَعْنِي الْمَوْلُودُ خَنَسَهُ الشَّيْطَانُ، فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَهَبَ وَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ اللَّهُ ثَبَتَ عَلَى قَلْبِهِ»، قَالَ الرَّاغِبُ: ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾ أَيِ الشَّيْطَانِ الَّذِي يَخْنُسُ أَيْ يَنْقَبِضُ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى.

﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)﴾ الْمُرَادُ بِالصُّدُورِ هُنَا الْقُلُوبُ، قَالَ الْعِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلامِ: ﴿يُوَسْوِسُ﴾ أَيْ يَدْعُو إِلَى طَاعَتِهِ بِمَا يُوصِلُ إِلَى الْقَلْبِ، وَقَدْ رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ مِنْ حِدِيثِ سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلائِكَةِ» قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: «وَإِيَّايَ إِلا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلا يَأْمُرُنِي إِلا بِخَيْرٍ».

تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ: لا يَجُوزُ اعْتِقَادُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ فِي نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ كَفَرَ.

﴿مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)﴾ الْجِنَّةُ هُمُ الْجِنُّ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: «وَفِي مَعْنَى الآيَةِ قَوْلانِ، أَحَدُهُمَا: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ جِنَّتِهِمْ وَنَاسِهِمْ، فَسَمَّى الْجِنَّ هَهُنَا نَاسًا كَمَا سَمَّاهُمْ رِجَالا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ﴾ [سُورَةَ الْجِنّ 6]، وَسَمَّاهُمْ نَفَرًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ﴾ [سُورَةَ الْجِن 1]، هَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْوَسْوَاسُ مُوَسْوِسًا لِلْجِنِّ كَمَا يُوَسْوِسُ لِلإِنْسِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَسْوَاسَ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ هُوَ مِنَ الْجِنَّةِ وَهُمْ مِنَ الْجِنِّ، وَالْمَعْنَى: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْجِنِّ، ثُمَّ عَطَفَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَالنَّاسِ﴾ عَلَى ﴿الْوَسْوَاسِ﴾ وَالْمَعْنَى مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ وَمِنْ شَرِّ النَّاسِ كَأَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ».

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: «فَصْلٌ: وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى عِصْمَةِ النَّبِيِّ مِنَ الشَّيْطَانِ وَكِفَايَتِهِ مِنْهُ، لا فِي جِسْمِهِ بِأَنْوَاعِ الأَذَى وَلا عَلَى خَاطِرِه بِالْوَسَاوِسِ»، ثُمَّ قَالَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَهُ: «وَأَمَّا أَقْوَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قَامَتِ الدَّلائِلُ الْوَاضِحَةُ بِصِحَّةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِهِ وَأَجْمَعَتِ الأُمَّةُ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الْبَلاغَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِيهِ مِنَ الإِخْبَارِ عَنْ شَىْءٍ مِنْهَا بِخِلافِ مَا هُوَ بِهِ لا قَصْدًا وَلا عَمْدًا وَلا سَهْوًا وَلا غَلَطًا».

انْتَهَى تَفْسِيرُ جُزْءِ عَمَّ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوَّلا وَءَاخِرًا، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى خَاتَمِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِهِ وَصَحَابَتِهِ الأَخْيَارِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

سني أهل السنة دروس دينية إسلامية ثقافة إسلامية تفسير قرآن تفسير سورة ناس تفسير سورة الناس تفسير جزء عم يتساءلون سورة الناس