تفسير سورة المُلك آية 22 إلى 30

ثم ضرب الله مثلاً للمؤمن والكافر فقال: أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)

﴿أفَمَن يمشي مُكِبًّا على وجهِهِ﴾ أي منكسًا رأسه لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله فهو لا يأمن من العثار والانكباب على وجهه ولا يدري أين يذهب، وهذا هو الكافر أكب على الكفر والمعاصي في الدنيا فحشره الله على وجهه يوم القيامة، أهذا ﴿أهدى﴾ أي أشد وأرشد استقامة على الطريق وأهدى له ﴿أمَّن﴾ أي أم من ﴿يمشي سَوِيًّا﴾ معتدلاً ناظرًا ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله يبصر الطريق ﴿على صِراطٍ﴾ أي طريق ﴿مُستقيمٍ﴾ أي مستو لا اعوجاج فيه. وقد شبّه الله تعالى المؤمن في تمسكه بالدين الحق ومشيه على منهاجه بمن يمشي في الطريق المعتدل الذي ليس فيه ما يتعثر به، وشبّه الكافر في ركوبه ومشيه على الدين الباطل بمن يمشي في الطريق الذي فيه حفر وارتفاع وانخفاض فيتعثر ويسقط على وجهه كلّما تخلص من عثرة وقع في أخرى، وقرأ قنبل: "صراط" بالسين.

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصٰرَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (23)

﴿قُلْ﴾ يا محمد للمشركين ﴿هُوَ الذي أنْشَأَكُم﴾ أي الله الذي خلقكم ﴿وجعلَ لكُم السَّمْعَ﴾ تسمعون به ﴿والأبصارَ﴾ تُبصرون بها ﴿والأفئدةَ﴾ أي القلوب تعقلون بها ﴿قليلاً ما تشكرون﴾ أي قليلاً ما تشكرون الله على هذه النعم التي أنعمها عليكم، وشكر نعمة الله هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه وأنتم لمّا صرفتم السمع والبصر والعقل لا إلى طلب مرضاة الله فانتم ما شكرتم نعمته البتة.

قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)

﴿قُلْ﴾ يا محمد: الله ﴿هُوَ الذي ذَرَأكُم﴾ أي بثكم وفرّقكم ﴿في الأرضِ وإليهِ تُحشَرون﴾ أي تبعثون يوم القيامة فتُجمعون من قبوركم للحساب والجزاء، والمعنى أن القادر على خلقكم من العدم قادر على إعادتكم وفي ذلك ردّ على منكري البعث والحشر.سورة

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صٰدِقِينَ (25)

﴿ويقولونَ﴾ أي المشركون المنكرون للبعث ﴿متى هذا الوعدُ﴾ أي متى يوم القيامة ومتى هذا العذاب الذي تعدوننا به ﴿إنْ كُنتُم صادقينَ﴾ في وعدكم إيانا ما تعدوننا، وهذا استهزاء منهم، فأجابهم الله عن ذلك بقوله: ﴿قُلْ إنَّما العلمُ عندَ اللهِ وإنَّما أناْ نذيرٌ مُبينٌ (26)﴾.

﴿قُلْ﴾ أي يا محمد ﴿إنَّما العلمُ﴾ بوقت قيام الساعة ﴿عندَ اللهِ﴾ لا يعلم ذلك غيره ﴿وإنَّما أناْ نذيرٌ﴾ لكم أنذركم عذاب الله على كفركم به ﴿مُبينٌ﴾ أي أبين لكم الشرائع.

فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)

﴿فلمَّا رَأَوْهُ﴾ أي فلما رأى هؤلاء المشركون العذاب الموعود به في الآخرة ﴿زُلفةً﴾ أي قريبُا منهم ﴿سِيئَتْ وجوهُ الذينَ كفروا﴾ ظهر فيها السوء والكآبة وغشيها السواد كمن يُساق إلى القتل ﴿وقيلَ﴾ أي تقول لهم الزبانية ومن يوبخهم ﴿هذا﴾ العذاب ﴿الذي كُنتم بهِ تدعون﴾ أي تفتعلون من الدعاء أي تمنَّون وتسألون تعجيله وتقولون ائتنا بما تعدنا، أو هو من الدعوى أي كنتم بسببه تدّعون أنكم لا تبعثون إذا متم.

فائدة: قرأ يعقوب: "به تدعون" بتخفيف الدال وسكونها، والباقون بتشديد الدال وفتحها، والأول على معنى تطلبون وتستعجلون، والثاني من الدعوى أي تدعون الأباطيل والأكاذيب وأنكم إذا متم لا تُبعثون، قال البخاري: "تدَّعون وتَدْعون واحدٌ مثلُ تذَّكَّرون وتَذْكُرون".

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكـٰفِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)

﴿قُل﴾ أي قل يا محمد للمشركين من قومك الذين كانوا يتمنون موتك ﴿أرَءَيتُم إنْ أهْلَكَنيَ اللهُ﴾ أي أماتني كما تريدون، قرأ حمزة: "أهلكني" بإسكان الياء فتحذف لفظًا في الوصل وترقق لام الجلالة لكسر النون، والباقون بفتحها فتفخم لام الجلالة للفتح.

﴿ومَن مَّعيَ﴾ من المؤمنين، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر، وحفص عن عاصم: "معيَ" بفتح الياء، وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي: "معي" بالإسكان، ﴿أوْ رَحِمَنا﴾ فأبقانا وأخّر في ءاجالنا فلم يعذبنا بعذابه ﴿فمَن يُجيرُ الكافرينَ مِن عذابٍ أليمٍ﴾ أي من يحميكم ويمنع عنكم العذاب الموجع المؤلم الذي سببه كفركم، والمعنى: لا، ليس ينجي الكفار من عذاب الله موتُنا وحياتُنا فلا حاجة بكم إلى أن تستعجلوا قيامَ الساعة ونزول العذاب فإن ذلك غيرُ نافعكم بل ذلك بلاء عليكم عظيم.

قُلْ هُوَ الرَّحْمٰنُ ءَامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ (29)

﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿هُوَ الرَّحمنُ﴾ أي الذي نعبده ونوحده وأدعوكم إلى عبادته ﴿ءامَنَّا بهِ﴾ أي صدقنا به ولم نشرك به شيئًا ﴿وعليهِ توكَّلنا﴾ أي وعليه اعتمدنا في أمورنا وأن الضار والنافع على الحقيقة هو الله.

﴿فَسَتَعْلَمونَ﴾ أيها المشركون بالله إذا نزل بكم العذاب وعاينتموه، وقرأ الكسائي بالياء من تحتُ، والباقون بالتاء من فوق.

﴿مَن هُوَ في ضلالٍ﴾ أي من هو بعيد عن الحق وعلى غير طريق مستقيم نحن أم أنتم ﴿مُبينٍ﴾ أي بيّن.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ (30)

﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين ﴿أرَءَيْتُم﴾ أيها القوم أي أخبروني يا معشر قريش ﴿إنْ أصبحَ ماؤُكُمْ غَوْرًا﴾ أي غائرًا ذاهبًا في الأرض إلى أسفل لا تناله الأيدي ولا الدّلاء وهو جمع دلو ﴿فمَنْ﴾ أي الذي ﴿يأتيكُم بماءٍ مَّعين﴾ أي بماء طاهر تراه العيون، أو جارٍ يصل إليه من أراده، أي لا يأتيكم به إلا الله فكيف تنكرون أن يبعثكم.

ويروى أن هذه الآية تُليت عند ملحد فقال: يأتي به الفئوس والمعاول، فذهب ماء عينه في تلك الليلة وعمي، نعوذ بالله من الجرأة على الله وعلى ءاياته، ونسأل الله أن يحفظ علينا إيماننا ويحسن ختامنا ويدخلنا الجنة مع الأبرار ءامين.