تفسير سُورَة القلم آية 1 إلى 13

مناسبة هذه السورة لما قبلها أنه فيما قبلها ذكر الله أشياء من أحوال السعداء والأشقياء، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع، وأنه تعالى لو شاء لخسف بهم الأرض أو لأرسل عليهم حاصبًا، وكان ما أخبر الله تعالى به هو ما تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي، وكان الكفار ينسبونه مرة إلى الشعر ومرة إلى السحر ومرة إلى الجنون، فبدأ سبحانه وتعالى هذه السورة ببراءته صلى الله عليه وسلم مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون، وتعظيم أجره على صبره على أذاهم وبالثناء على خلُقه العظيم، فقال عز وجل:

﴿ن﴾ قرأ ابن كثير ونافع بخلف عن ورش وأبو عمرو وحمزة وحفص بإظهار النون أي بفك الإدغام من واو القسم، وقرأ ابن عامر والكسائي وشعبة وخلف ويعقوب بإدغام النون في الواو، وهو أحد حروف الهجاء، والله أعلم بمراده به ﴿والقلم﴾ الواو واو القسم، أي يُقسم ربنا عز وجل بالقلم، والقلم معروف غير أن الذي أقسم به ربنا من الأقلام القلم الذي خلقه الله تعالى فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة من الآجال والأعمال والأرزاق وغيرها ﴿وما يَسْطُرونَ﴾ أي وما يكتبون، والمعنى ما تكتبه الملائكة الحفظة من أعمال بني ءادم.

﴿ما أنْتَ﴾ يا محمد ﴿بِنِعمةِ ربِّكَ﴾ أي بسبب نعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة وغيرهما ﴿بِمَجنونٍ﴾ أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إنه مجنون شيطان، فنزلت: ﴿ما أنتَ بنعمةِ ربكَ بمجنون﴾ أي وما أنت بإنعام ربك عليك بالإيمان والنبوة بمجنون، ونِعَمُ الله ظاهرة عليك من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية والبراءة من العيوب والأخلاق الحميدة، وفي ذلك رد وتكذيب للمشركين في قولهم إنه مجنون.

﴿وإنَّ لكَ﴾ يا محمد ﴿لأجرًا﴾ أي ثوابًا من الله عظيمًا على صبرك على أذى المشركين إياك فلا يمنعك ما قالوا عن دعاء الخلق إلى الله تعالى ﴿غيرَ ممنونٍ﴾ أي غير منقوص ولا مقطوع.

﴿وإنَّكَ﴾ يا محمد ﴿لعلى خُلُقٍ عظيمٍ﴾ روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: "فإن خُلُق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرءان"، والمعنى: إنك لعلى الخلق الذي أمرك الله به في القرءان.

﴿فسَتُبْصِرُ﴾ أي فستعلم يا محمد ﴿ويُبْصِرونَ﴾ وسيعلم المشركون من أهل مكة يوم القيامة وهذا وعيد لهم.

﴿بِأيِّيكُمُ المَفتونُ﴾ في أي الفريقين المجنون أبالفرقة التي أنت فيها من المؤمنين أم بالفرقة الأخرى، وقيل غير ذلك.

﴿إنَّ ربَّكَ﴾ يا محمد ﴿هُوَ أعلمُ﴾ أي عالم ﴿بِمَنْ ضلَّ عن سبيلِهِ﴾ أي حاد عن دينه ﴿وهُوَ﴾ أي الله ﴿أعلمُ﴾ أي عالم ﴿بالمُهتَدينَ﴾ الذي هم على الهدى فيجازي كُلاً غدًا بعمله.

﴿فلا تُطِعِ﴾ يا محمد وذلك أن رؤساء أهل مكة دعَوه إلى دينهم ﴿المُكَذِّبينَ﴾ الذين كذبوا بما أنزل الله عليك من الوحي وهذا نهي عن طواعيتهم في شيء مما كانوا يدعونه إليه من الكف عنهم ليكفّوا عنه ومن تعظيم ما كانوا يعبدونه من دون الله وغير ذلك.

﴿وَدُّوا﴾ أي تمنوا ﴿لوْ تُدْهِنُ﴾ أي تلين لهم ﴿فيُدهِنونَ﴾ أي يلينون لك، ومعنى الآية أنهم تمنوا أن تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلوا مثل ذلك، ويتركوا بعض ما لا ترضى به فتلين لهم ويلينوا لك.

﴿ولا تُطِعْ﴾ أي يا محمد ﴿كُلَّ حلّافٍ﴾ أي كل ذي إكثار للحلف بالباطل ﴿مَهينٍ﴾ أي حقير في الرأي والتمييز، وقال بعضهم: مهين أي كذاب لأن الإنسان إنما يكذب لمهانة نفسه عليه.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ما نصه: "اختُلِفَ في الذي نزلت فيه فقيل: هو الوليد بن المغيرة وذكره يحيى بن سلام في تفسيره، وقيل: الاسود بن عبد يغوث ذكره سنيد بن داود في تفسيره، وقيل: الأخنس بن شريق وذكره السهيلي عن القتيبي، وحكى هذين القولين الطبري فقال: يقال: هو الأخنس، وزعم قوم أنه الأسود وليس به، وأبعد من قال: إنه عبد الرحمن بن الأسود فإنه يصغر عن ذلك، وقد أسلم، وذكر في الصحابة" ا.هـ.

﴿هَمَّازٍ﴾ قال ابن عباس: "هو المغتاب"، والغيبة ذكرك أخاك المسلم بما يكره مما فيه في خلفه، وقد روى أبو داود في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما عُرج بي مررتُ بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم".

﴿مَّشَّاءٍ بنَمِيمٍ﴾ أي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم، والنميمة هي نقل القول للإفساد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخُلُ الجنةَ قتَّاتٌ" رواه البخاري، والقتات هو النمام، ومعنى الحديث لا يدخلها مع الأولين.

﴿مَّنَّاعٍ للخَيْرِ﴾ الظاهر أن الخير هنا يراد به العموم فيما يطلق عليه خير، قاله أبو حيان، وقيل: بخيل المال، وقيل: يمنع ولده وعشيرته عن الإسلام يقول لهم من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدًا. ﴿مُعْتَدٍ﴾ أي على الناس في الظلم متجاوز للحد صاحب باطل ﴿أثِيمٍ﴾ كثير الآثام.

﴿عُتُلٍّ﴾ أي الغليظ الجافي، وقيل: الذي يعتُل الناس أي يحملهم ويجرهم إلى ما يكرهون من حبس وضرب، وقيل: الشديد الخصومة بالباطل، وقيل: الفاحش اللئيم، وقيل: الأكول الشروب الغشوم الظلوم.

﴿بَعْدَ﴾ أي مع ﴿ذَلِكَ﴾ فهو ﴿زَنِيمٍ﴾ والمعنى: مع ما وصفه الله به من الصفات المذمومة فهو زنيم، والزنيم هو الدَّعيُّ في قريش وليس منهم، وقيل: هو الذي يُعرف بالشر كما تُعرف الشاة بزنمتها وهي المتدلية من أذنها ومن الحَلق. وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ قال: "رجلٌ من قريش له زَنَمَة مثلُ زَنَمَة الشاة" ا.هـ. أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التفسير: باب {عُتُلٍّ بعدَ ذلكَ زنيمٍ}

وروى البخاري عن حارثة بن وَهْبٍ الخُزاعي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا أخبركم بأهل الجنة، كُلُّ ضعيف مُتَضَعّفٍ لو أقسم على الله لأبرَّه، ألا أخبركم بأهل النار كُلُّ عُتُل جَوَّاظٍ مُستكبر"، أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التفسير: باب {عُتُلٍّ بعدَ ذلكَ زنيمٍ} من سورة ن.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ولا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ فلم نعرفه -أي للوليد بن المغيرة- حتى نزل عليه بعد ذلك ﴿زَنِيمٍ﴾ فعرفناه له زنمة كزنمة الشاة.