تفسير سُورَة القلم آية 14 إلى 28

﴿أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ﴾ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وحفص عن عاصم: "أن كان" على الخبر، أي لأن كان، والمعنى لا تطعه لماله وبنيه، وقرأ ابن عامر بهمزتين: الأولى مخففة والثانية ملينة، وفَصَلَ بينهما بألف أبو جعفر، وقرأ حمزة: "أأن كان" بهمزتين محققتين على الاستفهام، وله وجهان: أحدهما: لأن كان ذا مال تطيعه وهذا تقريع لهذا الحلاف المهين، والثاني: ألأن كان ذا مال وبنين.

﴿إذا تُتْلى عليهِ ءاياتُنا﴾ أي القرءان ﴿قَالَ أَسَاطِيرُ الْأوَّلِينَ﴾ أي قال: أباطيلهم وترهاتهم وخرافاتهم، وهذا الذي قال إنما هو استهزاء بآيات الله وإنكار منه أن يكون ذلك من عند الله.

ولمَّا ذكر قبائح أفعاله وأقواله ذكر ما يُفعل به على سبيل التوعد فقال تعالى: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الخُرطُومِ﴾ السِّمة: العلامة، والخرطوم: الأنف، والمعنى: سنبين أمره بيانًا واضحًا حتى يعرفوه فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السِّمة على الخرطوم، ويحتمل أن يكون المعنى: سنجعل على أنفه علامة يُعيَّر بها ما عاش، فخُطِم بالسيف، يقال خَطَمَهُ إذا أثَّر في أنفه جراحة، فجمع له مع بيان عيوبه للناس الخطم بالسيف، وقال ءاخرون: لزمه عار لا ينمحي عنه ولا يفارقه.

﴿إنَّا بَلَوْناهُم﴾ يعني أهل مكة امتحناهم واختبرناهم، والمعنى: أعطيناهم أموالاً ليشكروا لا ليَبطَروا فلما بَطِروا وعادَوْا محمدًا صلى الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط ﴿كَمَا بَلَوْنَا﴾ أي امتحنا ﴿أَصْحَابَ الجنَّةِ﴾ أي أصحاب البستان ﴿إذْ أَقْسَمُوا﴾ وحلَفوا فيما بينهم ﴿لَيَصْرِمُنَّها﴾ أي ليقطَعُنَّ ثمرها ﴿مُصْبِحِينَ﴾ أي وقت الصباح كي لا يشعر بهم المساكين فلا يُعْطُونَ ما كان أبوهم يتصدق به عليهم منها.

﴿ولا يَسْتَثْنُونَ﴾ أي لا يقولون إن شاء الله بل عزموا على ذلك عزم من يملك أمره. أما قصة أصحاب الجنة وهي البستان فقد ذكر أهل التفسير أن رجلًا كان بناحية اليمن له بستان وكان مؤمنًا وذلك بعد سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام، وكان يجعل عند الحصاد نصيبًا للفقراء والمساكين فكان يجتمع من هذا شيء كثير، فلما مات الأب ورثه ثلاثة بنين له وقالوا: والله إن المال لقليل وإن العيال لكثير وإنما كان أبونا يفعل هذا الأمر إذ كان المال كثيرًا والعيال قليلًا، وأما إذا قلَّ المال وكثر العيال فإنا لا نستطيع أن نفعل هذا، فعزموا على حرمان المساكين وتحالفوا بينهم يومًا ليغدُوَّن غَدوة قبل خروج الناس ليقطعوا ثمر البستان، فلما أصبحوا وجدوه قد احترق وصار كالليل الأسود.

﴿فَطَافَ﴾ أي طرق ﴿عَلَيْهَا﴾ أي الجنة وهي البستان ﴿طَائِفٌ﴾ أي طارق ﴿مِن رَّبِّكَ﴾ أي من أمر الله ﴿وَهُمْ نَائِمُونَ﴾ ومعنى الآية أن الله بعث على البستان نارًا فاحترق فصار أسود.

﴿فَأَصْبَحَتْ﴾ فصارت جنتهم أي بستانهم ﴿كَالصَّرِيمِ﴾ كالليل الأسود بسبب احتراق البستان، وقيل: صارت كالرماد الأسود.

﴿فَتَنادَوْا﴾ هؤلاء القومُ وهم أصحاب الجنة أي دعا بعضهم بعضًا إلى المضي إلى ميعادهم ﴿مُصْبِحِينَ﴾ يعني لما أصبحوا.

﴿أَنِ اغْدُوا﴾ أي باكروا بالخروج وقت الغداة ﴿عَلَى حَرْثِكُمْ﴾ يعني الثمار والزرع ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ﴾ أي قاطعين ثماركم.

﴿فانْطَلَقُوا﴾ أي مضَوا وذهبوا إلى حرثهم ﴿وهُمْ يَتَخَافَتُونَ﴾ أي يتسارُّون، والمعنى أنهم يُخفون كلامهم ويُسرونه لئلا يعلم بهم أحد.

﴿أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا﴾ أي يتخافتون ويقولون: لا يدخلنها أي الجنةَ ﴿اليَوْمَ عَلَيْكُم مِسكِينٌ﴾ والنهي عن الدخول نهي عن التمكين منه أي لا تمكنوهم من الدخول فيدخلوا.

﴿وغَدَوْا﴾ أي ساروا إلى جنتهم غدوة ﴿عَلَى حَرْدٍ﴾ أي على قدرة، وفُسّر الحرد بالقصد أي غدَوا على أمر قد قصدوه واعتمدوه واستسرّوه بينهم وهم يظنون في أنفسهم القدرة على صرمها وأنهم تمكنوا من مرادهم، وفُسّر الحرد بالمنع أي منع الفقراء وفي ظنهم القدرةُ على ذلك، وقيل غير ذلك ﴿قَادِرِينَ﴾ أي عند أنفسهم على جنتهم وثمارها لا يحول بينهم وبينها أحد، ويحتمل أن يكون من التقدير بمعنى التضييق لقوله تعالى: ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ [سورة الفجر] أي مضيقين على المساكين إذ حرموهم ما كان أبوهم ينيلهم منها، قاله أبو حيان.

﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا﴾ أي فلما صار هؤلاء القومُ إلى بستانهم ورأَوها محترقًا حرثُها أنكروها وشكوا فيها هل هي جنتهم أم لا، فقال بعضهم لبعض ظنًّا منهم أنهم قد ضلّوا الطريق وتاهوا وأن التي رأوا غيرُها ﴿قَالُوا إِنَّا﴾ أيها القوم ﴿لَضَالُّونَ﴾ أي لمخطئون الطريق إلى جنتنا وليست هذه جنتَنا، ثم وضح لهم أنها هي وأنه أصابها من عذاب الله ما أذهب خيرها، وقيل: أي إنا لضالون عن الصواب في غدوّنا على نية منع المساكين فلذلك عوقبنا.

﴿بَلْ نَحْنُ﴾ أيها القوم ﴿مَحْرُومُونَ﴾ أي حُرِمنا خيرها ونفعها بمنعنا الفقراءَ منها.

﴿قَالَ أَوْسَطُهُم﴾ أي قال أفضلهم وأعدلهم قولا وأرجحهم عقلًا ﴿أَلَمْ أقُل لَّكُمْ لَوْلَا﴾ أي هلَّا ﴿تُسَبِّحونَ﴾ أي تقولون سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. فقد أنَّبهم أخوهم ووبخهم على تركهم ما حضهم عليه من تسبيح الله أي ذِكره وتنزيهه عن السوء، ولو ذكروا الله وإحسانه إليهم لامتثلوا ما أمر به من مواساة المساكين واقتفَوا سنة أبيهم في ذلك، فلما غفلوا عن ذكر الله تعالى وعزموا على منع المساكين ابتلاهم الله وهذا يدل على أن أوسطهم كان قد تقدم إليهم وحرضهم على ذِكر الله تعالى، وقيل: "لولا تسبحون" أي تستثنون إذ قلتم ﴿لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ﴾ فتقولوا إن شاء الله، وقيل: لولا تسبحون أي تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم، ولمَّا أنَّبهم رجعوا إلى ذِكر الله تعالى واعترفوا على أنفسهم بالظلم وبادروا إلى تسبيح الله عزَّ وجلَّ.