تفسير سُورَة القلم آية 29 إلى 41

﴿قَالُوا سُبْحَانَ ربِّنا﴾ أي نزَّهوا الله عن أن يكون ظالمًا فيما فعل، قال ابن عباس: أي نستغفر الله من ذنبنا ﴿إنَّا كُنَّا ظالمينَ﴾ أي لأنفسنا من منعنا المساكين من ثمر جنتنا.

﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ﴾ أي يلوم بعضهم بعضًا، يقول هذا لهذا: أنت أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول ذلك لهذا: أنتَ خوفتنا من الفقر، ويقول الثالث لغيره: أنت رغبتنا في جمع المال، ثم نادَوا على أنفسهم بالويل.

﴿قالوا يا ويْلَنا﴾ أي هلاكنا ﴿إنَّا كُنَّا طاغينَ﴾ أي مخالفين أمر الله في تركنا الاستثناء ومنعنا حق الفقراء، ثم رجَوا انتظار الفرج في أن يبدلهم خيرًا من تلك الجنة فقالوا:"

﴿عَسَى ربُّنَا أن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا﴾ أي من هذه الجنة ﴿إِنَّا إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ﴾ أي طالبون من الله تعالى في أن يبدلنا من جنتنا إذ هلكت خيرًا منها، وقرأ المدنيان وأبو عمرو: "يُبَدّلنا" بفتح الباء وتشديد الدال.

﴿كَذَلِكَ العَذَابُ﴾ أي عذاب الدنيا الذي بلونا به أصحاب البستان من إهلاك ما كان عندهم إذ أصبحت جنتهم أي بستانهم كالصريم. ﴿ولَعَذابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ﴾ يعني عقوبة الآخرة لمن عصى ربه وكفر به أكبر يوم القيامة من عقوبة الدنيا وعذابها ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أي لو كان هؤلاء المشركون يعلمون أن عقوبة الله لأهل الشرك به أكبر من عقوبته لهم في الدنيا لارتدعوا وتابوا وأنابوا.

ثم أخبر الله عزَّ وجلَّ بما أعدَّ للمتقين فقال: ﴿إنَّ للمُتَّقينَ﴾ المؤمنين بالله ورسوله والمجتنبين للشرك وسائر أنواع الكفر، والتقي هو الذي أدَّى ما فرضه الله واجتنب ما حرَّمه، فهؤلاء المتقون لهم ﴿عنْدَ ربِّهِم﴾ في الآخرة ﴿جَنَّاتِ النَّعيمِ﴾ أي النعيم الدائم الذي لا يشوبه ما ينغصه، قال الله تعالى: ﴿إنَّ الذينَ ءامَنُوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ إنَّا لا نُضِيعُ أجرَ مَنْ أحْسَنَ عملاً  أُولئِكَ لهُمْ جنَّاتُ عَدْنٍ تَجري مِن تَحْتِهِمُ الأنهارُ يُحَلَّوْنَ فيها مِن أساوِرَ مِن ذهبٍ ويَلْبَسُونَ ثيابًا خُضْرًا من سُندُسٍ وإستبرقٍ مُتَّكِئينَ فيها على الأرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وحَسُنَتْ مُرتَفَقًا﴾ [سورة الكهف]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفِلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يَتَمَخَّطُون" قالوا: فما بال الطعام ؟ قال: "جُشاء ورشْحٌ كرشْح المسك، يُلهمون التسبيح والتحميد كما يُلهمون النَّفَسَ"، وقال أيضًا: "ينادي منادٍ: إن لكم أن تَصِحُّوا فلا تَسقَموا أبدًا، وإن لكم أن تحْيَوْا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشِبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعَموا فلا تبأسوا أبدًا، فذلك قوله عزَّ وجلَّ: ﴿ونُودُوا أنْ تِلكُمُ الجَنَّةُ أُورِثتُمُوهَا بِمَا كُنتُم تَعْمَلُونَ﴾ [سورة الأعراف] رواهما مسلم. أخرجهما مسلم في صحيحه: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيًا: وباب في دوام نعيم أهل الجنة.

ولمَّا قال المشركون: إنا لنُعْطى في الآخرة أفضل مما تُعْطون قال تعالى مكذبًا لهم: ﴿أفَنَجْعَلُ المسلمينَ كالمجْرِمِينَ﴾ أي لا يتساوى عند الله الذين ءامنوا بربهم وذلوا له بالعبودية والكافرين، وهو استفهام فيه توقيف على خطإ ما قالوا وتوبيخ وتقريع للكفار.

ثم وبَّخهم فقال: ﴿ما لَكُمْ﴾ أي أيُّ شيء لكم فيما تزعمون، وهو استفهام إنكار عليهم ﴿كَيْفَ تَحكُمُونَ﴾ وهو استفهام ثالث على سبيل الإنكار عليهم، ومعنى الآية: كيف تحكمون هذا الحكم الفاسد، كأن أمر الجزاء مفوَّض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم أن لكم من الخير ما للمسلمين، وهذا إشعار بأن هذا الحكم صادر من اختلال فكر واعوجاج رأي.

﴿أمْ لكُمْ﴾ أي ألكم أيها القوم بتسويتكم بين المسلمين والمجرمين في الجزاء والمنزلة ﴿كِتابٌ﴾ أُنزل من عند الله أتاكم به رسول من رسله ﴿فيهِ تَدْرُسُون﴾ أي تقرءون في ذلك الكتاب. "

﴿إنَّ لكُمْ فيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ﴾ أي إن ما تختارونه وتشتهونه لكم كما زعمتم. وشدد البزي تاء: "تخيرون" وصلاً مع المد المشبع قبله.

﴿أمْ لَكُمْ﴾ أي ألكم ﴿أيْمانٌ عَلينَا بَالِغةٌ﴾ أي أقسام وعهود ومواثيق عاهدناكم عليها فاستوثقتم بها منا بالغة أي ﴿بالغةٌ إلى يومِ القيامةِ﴾ مؤكدة تنتهي بكم إلى يوم القيامة لا تنقطع تلك الأيمان والعهود إلى يوم القيامة ﴿إنَّ لكُم﴾ في ذلك العهد ﴿لما تَحكُمونَ﴾ أي حكمكم.

ثم قال الله تعالى لنبيه محمد: ﴿سَلْهُمْ﴾ أي سل يا محمد هؤلاء المشركين وقل لهم ﴿أيُّهُم بذلكَ زعيمٌ﴾ الزعيم: الكفيل، أي أيهم كفيل وضامن بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين من الخير "

﴿أمْ لهُمْ شُركاءُ﴾ وفي تفسيره وجهان: الأول: أن المعنى أم لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء الله تعالى ويعتقدون أن أولئك الشركاء يجعلونهم في الآخرة مثل المؤمنين في الثواب والخلاص من العقاب، وإنما أضاف الشركاء إليهم لأنهم هم جعلوها شركاء لله تعالى.

الثاني: أن المعنى أم لهم ناس يشاركونهم في قولهم هذا وهو التسوية بين المسلم والمجرم وأن لهم ما للمسلمين من الخير في الآخرة. ﴿فَلْيَأتوا﴾ هذا أمرٌ معناه التعجيز أي لا أحد يقول بقولهم كما أنه لا كتاب لهم ولا عهد من الله ولا زعيم لهم يضمن لهم من الله بهذا ﴿بِشُركائِهم﴾ يشهدون على ما زعموا ﴿إن كانوا صادقين﴾ في دعواهم.