تفسير سُورَة القلم آية 42 إلى 52
ثم إنه تعالى لمَّا أبطل قولهم وبين أنه لا وجه لصحته أصلاً أخبر عن عظمة يوم القيامة فقال: ﴿يومَ﴾ هو يوم القيامة ﴿يُكشفُ عن ساقٍ﴾ هو عبارة عن شدة الأمر يوم القيامة للحساب والجزاء، يقال: كشفت الحرب عن ساق إذا اشتد الأمر فيها، وثبت هذا المعنى عن ترجمان القرءان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال في تفسير هذه الآية: "عن شدة من الأمر" (أنظر فتح الباري في شرح صحيح البخاري [13/428])، وروى الحاكم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: "هو يوم كرب وشدة". قال الإمام أبو جعفر الطحاوي وهو من رءوس السلف الصالح في عقيدته التي هي عقيدة أهل السنة والجماعة: "وتعالى -أي الله- عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات" اهـ.
﴿ويُدْعَوْنَ﴾ أي الكفار ﴿إلى السُّجُودِ فلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ كأن في ظهورهم سفافيد الحديد، والدعاء إلى السجود ليس على سبيل التكليف بل على سبيل التقريع والتوبيخ وعندما يدعون إلى السجود سُلبوا القدرة عليه وحيل بينهم وبين الاستطاعة حتى يزداد حزنهم وندمهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه وهم سالمو الأطراف والمفاصل.
﴿خَاشِعَةً أبصَارُهُم﴾ أي ذليلة وخاضعة ﴿ترهَقُهُم ذِلَّةٌ﴾ أي تغشاهم وذلك أن المؤمنين يرفعون رءوسهم ووجوههم أشد بياضًا من الثلج وتسود وجوه الكافرين ﴿وقدْ كانوا يُدعَوْنَ﴾ أي في الدنيا ﴿إلى السُجودِ وهُمْ سَالِمُونَ﴾ أي مُعَافون أصحاء.
﴿فَذَرْني وَمَن يُكَذِّبُ بِهذا الحَدِيثِ﴾ أي القرءان، والمعنى: كِلْ يا محمد أمر هؤلاء المكذبين بالقرءان إليَّ أَكفِكَ أمره أي حسبك في الإيقاع بهم والانتقام منهم أن تكِل أمرهم إليَّ فإني عالم بما يستحقون من العذاب، وهذا وعيد شديد لمن يكذب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الآخرة وغيره.
﴿سَنَسْتَدْرجُهُم﴾ أي نأخذهم درجة درجة وذلك إدناؤهم من الشيء شيئًا فشيئًا، والمعنى: أن الله تعالى يدنيهم من العذاب درجة درجة حتى يوقعهم فيه ﴿مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾ واستدراج الله تعالى العصاة أن يرزقهم الصحة ويفتح بابًا من النعمة يغتبطون به ويركنون إليه وهم يحسبونه تفضيلاً لهم على المؤمنين وهو في الحقيقة سبب لإهلاكهم فإن العبد إذا كان بحيث كلما ازداد ذنبًا جدَّد الله له نعمة وأنساه التوبة والاستغفار كان ذلك منه استدراجًا بحيث لا يشعر العبد أنه استدراج.
﴿وأُمْلِي لَهُم﴾ أي أمهلهم وأطيل لهم المدة ﴿إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ أي إن عذابي لقوي شديد.
﴿أمْ تَسْئَلُهُم﴾ أي أتسأل يا محمد هؤلاء المشركين بالله على ما أتيتَهم به من النصيحة ودعوتهم إليه من الحق ﴿أَجْرًا﴾ أي ثوابًا وجزاء ﴿فَهُمْ مِنْ مَّغْرَمٍ﴾ أي من أن يغرموا لك الأجر ﴿مُثْقَلون﴾ قد أثقلهم القيام بأدائه، ومعنى الآية: أتطلب منهم أجرًا فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم فيثبطهم ذلك عن الإيمان فلا يؤمنون، وهو استفهام بمعنى النفي أي لست تطلب أجرًا على تبليغ الوحي فيثقل عليهم ذلك فيمتنعوا عن الدخول في الذي دعوتهم إليه من الدين.
﴿أمْ عِنْدَهُمُ الغَيْبُ﴾ أي اللوح المحفوظ الذي فيه الغيب ﴿فهُم يَكْتُبُون﴾ منه ما يقولون، وهو استفهام على سبيل الإنكار.
﴿فاصْبِر﴾ يا محمد ﴿لِحُكْمِِ رَبِّكَ﴾ أي لقضاء ربك الذي هو ءات، وامض لما أمرك به ربك ولا يثنيك عن تبليغ ما أُمرت بتبليغه تكذيبهم إياك وأذاهم لك.
﴿ولا تَكُن﴾ يا محمد ﴿كَصَاحِبِ الحُوتِ﴾ وهو سيدنا يونس عليه السلام الذي حبسه الحوت في بطنه، وكان من قصته أنه لما ذهب إلى العراق امتثالا لأمر الله ليبلغ رسالة ربه ودعا هؤلاء المشركين إلى دين الإسلام وعبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام، كذَّبوه وتمرَّدوا وأصروا على كفرهم ولم يستجيبوا لدعوته، وبقي يونس عليه الصلاة والسلام بينهم صابرًا على الأذى يدعوهم إلى الإسلام ويذكّرهم ويعظهم، ولكنه مع طول مكثه معهم لم يلق منهم إلا عنادًا وإصرارًا على كفرهم ووجد فيهم ءاذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا ووقفوا معارضين لدعوته عليه السلام فأيس سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام منهم بعدما طال ذلك عليه من أمرهم وخرج من بين أظهرهم وظن أن الله تعالى لن يؤاخذه على هذا الخروج من بينهم ولن يضيق عليه بسبب تركه لأهل هذه القرية وهجره لهم قبل أن يأمره الله تبارك وتعالى بالخروج. ولمَّا أصاب نبيَّ الله يونس ما أصابه من ابتلاع الحوت علم عليه السلام أن ما أصابه حصل له ابتلاء له بسبب استعجاله وخروجه عن قومه الذين أُرسل إليهم بدون إذن من الله تعالى، ثم عاد إليهم فوجدهم مؤمنين بالله تائبين إليه فمكث معهم يعلمهم ويرشدهم.
فائدة: سيدنا يونس عليه السلام ذهب مغاضبًا لقومه لأنهم كذبوه ولم يؤمنوا بدعوته وأصروا على كفرهم وشركهم، فلا يجوز أن يعتقد أن نبي الله يونس عليه السلام ذهب مُغاضبًا لربه فإن هذا كفر وضلال لا يجوز نسبته لأنبياء الله الذين عصمهم الله وجعلهم هُداة مهتدين عارفين بربهم، فمن نسب إلى يونس عليه السلام أنه ذهب مغاضبًا لله فقد افترى على نبي الله ونسَبَ إليه الجهل بالله والكفر به وهذا يستحيل على الأنبياء لأنهم معصومون من الكفر والكبائر وصغائر الخسة قبل النبوة وبعدها.
﴿إذْ نَادَى﴾ حين دعا ربه وهو في بطن الحوت فقال: "لا إله إلا أنت سبحانك" ﴿وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ أي مملوء غيظًا على قومه إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان وأحوجوه إلى استعجال مفارقته إياهم.
﴿لَوْلا أنْ تَدَارَكَهُ﴾ أي أدركه ﴿نِعمةٌ﴾ أي رحمة ﴿مِنْ ربِّهِ﴾ أي لولا أن الله أنعم عليه بإجابة دعائه وقبول عذره ﴿لنُبِذَ﴾ أي لطرح من بطن الحوت ﴿بالعراءِ﴾ أي بالأرض الواسعة الفضاء التي ليس فيها جبل ولا شجر يستر ﴿وهُوَ مَذْمُومٌ﴾ أي مُليم ولكنه رُحم فنبذ غير مذموم لأنه تِيْبَ عليه قبل أن يخرج من بطن الحوت.
﴿فاجْتَباهُ ربُّهُ﴾ أي اصطفاه الله واختاره ﴿فَجَعلهُ مِنَ الصالحينَ﴾ أي من المستكملين لصفات الصلاح، وقيل من النبيين.
﴿وإن يَكادُ الذينَ كَفَروا لَيُزْلِقُونَكَ بأبْصارِهم﴾ وفي معنى الآية للمفسرين قولان: أحدهما: أن الكفار قصدوا أن يصيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين فعصمه الله تعالى وأنزل هذه الآية، وقيل: إن الكفار من شدة إبغاضهم لك وعداوتهم يكادون بنظرهم إليك نظر البغضاء أن يُزلِقه من شدته، يقال نظر فلان إليَّ نظرًا كاد يأكلني وكاد يصرعني. وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بمشيئة الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العين حق" رواه البخاري، أي الإصابة بالعين شيء ثابت موجود. أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب العين حق
وأخرج البخاري أيضًا من رواية ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوِّذ الحسن والحسين ويقول: "إن أباكما كان يعوِّذ بهما إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين ولامَّة". وقرأ الأكثرون: "لَيُزلقونك" بضم الياء من أَزْلَقَتُهُ، وقرأ أهل المدينة بفتحها من زَلَقتُه أَزْلِقُهُُ، وهما لغتان مشهورتان عند العرب. أخرجه البخاري في صحيحه.
﴿لما سَمِعوا الذِّكرَ﴾ أي لما سمعوا كتاب الله يُتلى وهو القرءان ﴿ويَقولونَ﴾ من شدة كراهيتهم وبغضهم لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ﴿إنَّهُ لمجنونٌ﴾ أي ينسبونه إلى الجنون إذا رأوه يقرأ القرءان يقولون ذلك تنفيرًا عنه وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلم أتمهم فضلاً وأرجحهم عقلاً، قال تعالى ردًّا عليهم ﴿وما هُوَ﴾ يعني القرءان ﴿إلا ذِكرٌ للعالمينَ﴾ أي موعظة للإنس والجن يتعظون به ويستنبطون منه صلاح أحوالهم المتعلقة بالدين والدنيا، فمن كان يظهر مثل هذا الذي فيه الهدى والحق والعدل والسعادة الأخروية ويتلوه ويدعو الناس إلى العمل بما فيه كيف يقال في حقه إنه مجنون والحال أنه من أدل الأمور على كمال عقله وعلوّ شأنه، فمن نسب إليه صلى الله عليه وسلم القصور فإنما هو من جهله وخيبته فإن ذا الفضل لا يعرفه إلا ذووه، ولقد قيل:
إذا لم يكن للمرءِ عينٌ صحيحةٌ فلا غَروَ أن يرتابَ والصبح مسفر.