تفسير سُورَة الحاقة آية 1 إلى 17

﴿الْحَاقَّةُ (١)﴾ يعني القيامة، سُميت حاقة من الحق الثابت يعني أنها ثابتة الوقوع لا ريب فيها.

﴿ما الحاقَّةُ (٢)﴾ ما استفهام لا يراد حقيقته بل المقصود منه تعظيم شأنها وتهويله أي ما هي الحاقة، ثم زاد في التهويل بأمرها فقال:

﴿وَمَا أَدْرَاكَ (٣)﴾ أي أعلمَك، أي لم تعاينها ولم تدر ما فيها من الأهوال ﴿مَا الْحَاقَّةُ (٣)﴾ زيادة تعظيم لشأنها ومبالغة في التهويل، والمعنى أن فيها ما لم يُدر ولم يُحط به وصف من أمورها الشاقة وتفصيل أوصافها.

ثم ذكر الله تعالى المكذبين بها فقال: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ (٤)﴾ وهم قوم سيدنا صالح عليه السلام ﴿وَعَادٌ (٤)﴾ وهم قوم سيدنا هود عليه السلام ﴿بِالْقَارِعَةِ (٤)﴾ أي بيوم القيامة، والقارعة اسم من أسماء يوم القيامة.

﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥)﴾ أي بطغيانهم وكفرهم، وقيل بالصيحة الشديدة المجاوزة في قوتها وشدتها عن حد الصيحات بحيث لم يتحملها قلب أحد منهم كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١)﴾ [سورة القمر]، والمقصود من ذكر هذه القصص زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهؤلاء الأمم في المعاصي لئلا يحُل بها ما حل بهم.

﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ (٦)﴾ باردة تحرِق ببردها كإحراق النار، وقيل الشديدة الصوت ﴿ عَاتِيَةٍ (٦)﴾ شديدة العصف تجاوزت في الشدة والعصوف مقدارها المعروف في الهبوب والبرد، فهم أي قوم عاد مع قوتهم وشدتهم لم يقدروا على ردّها بحيلة من الاستتار ببنيان أو الاستناد إلى جبل أو اختفاء في حفرة لأنها كانت تنزعهم عن أماكنهم وتهلكهم.

﴿سَخَّرَهَا (٧)﴾ أي سلطها الله وأدامها ﴿ عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا (٧)﴾ أي متتابعة دائمة ليس فيها فتور وذلك أن الريح المهلكة تتابعت عليهم في هذه الأيام فلم يكن لها فتور ولا انقطاع حتى أهلكتهم، وقيل: كاملة ﴿ فَتَرَى الْقَوْمَ (٧)﴾ يعني قوم عاد ﴿ فِيهَا (٧)﴾ في تلك الليالي والأيام ﴿ صَرْعَى (٧)﴾ جمع صريع يعني مَوْتى ﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ (٧)﴾ أي أصول ﴿ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (٧)﴾ أي ساقطة، وقيل خالية الأجواف، وشبههم بجذوع نخل ساقطة ليس لها رءوس، فإن الريح كانت تحمل الرجل فترفعه في الهواء ثم تلقيه فتشدَخ رأسه فيبقى جثة بلا رأس، وفي تشبيههم بالنخل أيضًا إشارة إلى عِظَمِ أجسامهم.

﴿فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (٨)﴾ أي من نفس باقية، أو التاء للمبالغة أي هل ترى لها من باق ؟ لا.

﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ (٩)﴾ أي من الأمم الكافرة التي كانت قبله كقوم نوح وعاد وثمود ﴿ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ (٩)﴾ يعني أهل قرى قوم لوط وكانت أربع أو خمس قريات التي ائتفكت أي انقلبت بأهلها فصار عاليها سافلها ﴿ بِالْخَاطِئَةِ (٩)﴾ أي بالفعلة أو الفعلات الخاطئة وهي المعصية والكفر، وقيل: الخطايا التي كانوا يفعلونها، وقيل: هي ذات الخطإ العظيم. وقرأ أبو عمرو، ويعقوب، والكسائي: "ومنْ قِبَلَهُ" بكسر القاف وفتح الباء، والباقون بفتح القاف وإسكان الباء.

﴿فَعَصَوْا (١٠)﴾ أي عصى هؤلاء الذين ذكرهم الله وهم فرعون ومن قبله والمؤتفكات ﴿ رَسُولَ رَبِّهِمْ (١٠)﴾ أي كذبوا رسلهم ﴿ فَأَخَذَهُمْ (١٠)﴾ ربهم ﴿ أَخْذَةً رَّابِيَةً (١٠)﴾ أي زائدة شديدة نامية زادت على غيرها من الأخذات كالغرق كما حصل لفرعون وجنوده وقلب المدائن كما حصل لقوم لوط.

﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ (١١)﴾ أي زاد وارتفع وعلا على أعلى جبل في الدنيا، والمراد الطوفان الذي حصل زمن سيدنا نوح عليه السلام ﴿ حَمَلْنَاكُمْ (١١)﴾ أي حملنا ءاباءكم وأنتم في أصلابهم ﴿ فِي الْجَارِيَةِ (١١)﴾ أي السفينة الجارية على وجه الماء وهي السفينة التي صنعها سيدنا نوح عليه السلام بأمر الله تعالى وصعد عليها من ءامن به.
فإن قيل: إن المخاطبين لم يدركوا السفينة فكيف يقال ﴿ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (١١)﴾، فالجواب: ان الذين خوطبوا بذلك وهم من ذرية الذين حُملوا في الجارية أي السفينة وهم سيدنا نوح عليه السلام وأولاده فكان حمل الذين حُمِلوا فيها من الأجداد حَمْلاً لذريتهم.

﴿لِنَجْعَلَهَا (١٢)﴾ أي لنجعل تلك الفعلة وهي إنجاء المؤمنين وإهلاك الكفرة ﴿ لَكُمْ تَذْكِرَةً (١٢)﴾ أي عبرة وعظة ودلالة على قدرة الخالق وحكمته وكمال قهره وقدرته ﴿وَتَعِيَهَا (١٢)﴾ أي تحفظ قصتها ﴿ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (١٢)﴾ أي حافظة لما تسمع أي من شأنها أن تعي المواعظ وما جاء من عند الله لإشاعة ذلك والتفكر فيه والعمل بموجبه.

﴿فَإِذَا نُفِخَ (١٣)﴾ أي فإذا نفخ إسرافيل وهو الملَك الموكَّل بالنفخ ﴿ فِي الصُّورِ (١٣)﴾ في البوق ﴿ نَفْخَةٌ (١٣)﴾ وهي النفخة الأولى وقيل: النفخة الثانية ﴿ وَاحِدَةٌ (١٣)﴾ تأكيد.

﴿وَحُمِلَتِ (١٤)﴾ أي رفعت من أماكنها ﴿ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ (١٤)﴾ أي حملتها الريح العاصف أو الملائكة أو الله عزَّ وجلَّ بقدرته من غير مماسة ولا مباشرة كما قال الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين بن علي رضي الله عنهم: "سبحانك لا تُمس ولا تُحَسّ ولا تُجَس". ﴿ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (١٤)﴾ أي ضرب بعضها ببعض حتى تفتتت، وقيل: تبسط فتصير أرضًا مستوية كالأديم الممدود.

﴿فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١٥)﴾ أي قامت القيامة، والواقعة هي القيامة.

﴿وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ (١٦)﴾ أي انفطرت وتصدعت وتميز بعضها من بعض ﴿ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (١٦)﴾ أي ضعيفة لتشققها بعد أن كانت شديدة.

﴿وَالْمَلَكُ (١٧)﴾ يعني الملائكة ﴿ عَلَى أَرْجَائِهَا (١٧)﴾ أي على جوانب وأطراف السماء ﴿ وَيَحْمِلُ (١٧)﴾ أي الملائكة يحملون ﴿ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ (١٧)﴾ أي فوق رءوسهم، وقيل: إن حملة العرش فوق الملائكة الذين في السماء على أرجائها ﴿ يَوْمَئِذٍ (١٧)﴾ أي يوم القيامة ﴿ ثَمَانِيَةٌ (١٧)﴾ أي من الملائكة واليوم أي في الدنيا يحمله أربعة من الملائكة، وإنما يكونون ثمانية يوم القيامة إظهارًا لعظيم ذلك اليوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان صفة حملة العرش: "أُذِنَ لي أن أُحَدِّث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام" رواه أبو داود [أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة.]، قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري" ما نصه: "إسناده على شرط الصحيح" اهـ.