تفسير سورة القيامة آية 17 إلى 40
﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)﴾ في صدرك، ﴿وقُرءانه﴾ أي ثم تقرؤه، والمعنى حتى تقرأه بعد أن جمعناه في صدرك.
﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)﴾ أي فإذا قرأه الملَك المبلِّغ عنا ﴿فاتَّبع قُرءانه﴾ أي فاستمع قراءته، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستمع ثم يقرأ، قال ابن عباس: "قرأناهُ: بَيَّنَّاهُ، فاتَّبع: اعمل به" رواه البخاري. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ فَإِذَا جَمَعْنَاهُ لَكَ في صَدْرِكَ "فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ" أَيْ فاعْمَلْ بِهِ.
﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)﴾ أي بيان ما فيه من حلاله وحرامه وأحكامه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "علينا أن نُبَيّنه بلسانك". وبعد خطاب النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى حال الإنسان السابق ذكره المنكر البعث وأن همّه إنما هو في تحصيل حطام الدنيا الفاني لا في تحصيل ثواب الآخرة إذ هو منكر لذلك، فقال تعالى:
﴿كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20)﴾ أي هذا رد عليهم وعلى أقوالهم أي ليس كما زعمتم ﴿بل تُحبُّون العاجلة﴾ أي أنتم قوم غلبت عليكم محبة شهوات الدنيا.
﴿وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ (21)﴾ أي تدَعون وتتركون الآخرة والعمل بها. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو وابن عامر: "بل يحبون العاجلة ويذرون الآخرة" بالياء فيهما.
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)﴾ هي وجوه المؤمنين بالله ورسوله ﴿يومئذ﴾ أي يوم القيامة ﴿ناضرةٌ﴾ أي حسنة بهية مسرورة.
﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾ أي يرون الله تعالى في الآخرة بلا كيف ولا مكان ولا جهة ولا ثبوت مسافة. ورؤية الله عزَّ وجلَّ في الآخرة للمؤمنين حق لا شك فيها، والأحاديث فيها صحاح.
﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24)﴾ هي وجوه الكفار ﴿يومئذ﴾ أي يوم القيامة ﴿باسرةٌ﴾ أي كالحة كاسفة عابسة متغيرة الألوان مسودة.
﴿تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)﴾ أي توقن، والظن هنا بمعنى اليقين ﴿أن يُفعل بها﴾ فِعلٌ هو في شدته ﴿فاقِرةٌ﴾ أي داهية تكسر فقار الظهر وتقصمه.
﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي (26)﴾ ردع وزجر عن إيثار الدنيا على الآخرة وتذكير لهم بما يؤولون إليه من الموت الذي تنقطع العاجلة عنده وينتقل منها إلى الآجلة التي يبقَون فيها مخلدين ﴿إذا بلغت﴾ أي نفس المحتضر المشرف على الموت ﴿التَّراقي﴾ جمع ترقوة وهي عظم يصل بين ثغرة النحر والعاتق، والعاتق موضع الرداء من المنكب.
﴿وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)﴾ أي قال من حوله ﴿من راق﴾ أي من يرقيه فيشفيه برقيته، وقيل: هل من طبيب يشفيه، وقيل: قالت الملائكة بعضهم لبعض: من يرقى بروحه إلى السماء أملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب.
﴿وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)﴾ أي أيقن المحتضر ﴿أنه الفراق﴾ أي فراق الدنيا والأهل والمال والولد وذلك حين عاين الملائكة.
﴿وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)﴾ أي اتصلت الشدة بالشدة أي شدة الدنيا بشدة الآخرة وذلك شدة كرب الموت بشدة هول المطلع وإقبال الآخرة.
﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)﴾ أي يوم القيامة ﴿المساقُ﴾ أي المرجع والمصير.
﴿فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31)﴾ أي لم يصدق بالقرءان ﴿ولا صلى﴾ أي لم يكن من المؤمنين فيصلي لله.
﴿وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)﴾ بالقرءان ﴿وتولى﴾ أي أعرض عن الإيمان.
﴿ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)﴾ أي إلى قومه ﴿يتمطَّى﴾ أي يتبختر في مشيته إعجابًا.
﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)﴾ تهديد بعد تهديد ووعيد بعد وعيد من الله تعالى للكافر، وتكراره هنا مبالغة في التهديد والوعيد.
﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾ أي أيظن ﴿الإنسانُ أن يُتركَ سُدى﴾ أي أن يُخلَّى مُهملاً لا يؤمر ولا يُنهى ولا يُكلَّف في الدنيا ولا يحاسب في الآخرة.
﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)﴾ أي ألم يك هذا المنكر قدرة الله على إحيائه من بعد مماته وإيجاده بعد فنائه ﴿نُطْفَةً﴾ أي ماء قليلاً في صلب الرجل وترائب المرأة ﴿من مني يُمنى﴾ أي يصب في رحم المرأة. وقرأ: "يُمنى" حفص ويعقوب بالياء، والباقون بالتاء.
﴿ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)﴾ أي صار المني ﴿علقة﴾ أي قطعة دم جامدة ﴿فخلق﴾ أي خلق الله منه بشرًا مركبًا من أشياء مختلفة ﴿فسوَّى﴾ أي سواه شخصًا مستقلاً ناطقًا سميعًا بصيرًا.
﴿فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى (39)﴾ أي فخلق من الإنسان ﴿الزوجَينِ الذكر والأنثى﴾ أي الرجل والمرأة.
﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)﴾ أي أليس الذي فعل ذلك فخلق هذا الإنسان من نطفة ثم علقة ثم مضغة حتى صيرَّه إنسانًا سويًّا له أولاد ذكور وإناث ﴿بقادرٍ على أن يُحييَ الموتى﴾ أي من مماتهم فيوجدهم كما كانوا قبل مماتهم، أي إن الله لا يعجزه إحياء ميت من بعد مماته. وقد روى أبو داود في سننه أن رجلاً كان يصلي فوق بيته وكان إذا قرأ: أليسَ ذلكَ بقادرٍ على أن يُحْيِيَ الموتى﴾ قال: سبحانك، فبلى، فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الصلاة: باب الدعاء في الصلاة.