تفسير سورة التكوير آية 1 إلى 14

رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيَقْرَأْ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾" صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.

﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَهَبَ نُورُهَا وَأَظْلَمَتْ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: تُجْمَعُ الشَّمْسُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ تُلَفُّ وَيُرْمَى بِهَا.

﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)﴾ أَيْ تَنَاثَرَتْ وَتَسَاقَطَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا ضَوْءٌ.

﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)﴾ أَيْ قُلِعَتْ مِنَ الأَرْضِ ثُمَّ سُوِّيَتْ بِهَا كَمَا خُلِقَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَيْسَ عَلَيْهَا جَبَلٌ وَلا فِيهَا وَادٍ.

﴿وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)﴾ الْعِشَارُ: جَمْعُ عُشَرَاءَ وَهِيَ النَّاقَةُ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا مِنْ وَقْتِ الْحَمْلِ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، وَهُوَ اسْمُهَا إِلَى أَنْ تَضَعَ لِتَمَامِ السَّنَةِ، وَهِيَ أَنْفَسُ مَا يَكُونُ عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَعَزُّهَا عَلَيْهِمْ، فَيَتْرُكُونَهَا مُهْمَلَةً بِلا رَاعٍ وَلا حَالِبٍ لِمَا دَاهَاهُمْ مِنَ الأُمُورِ، وَهَذَا قُبَيْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ حَيْثُ لا يَلْتَفِتُ أَحَدٌ إِلَى مَا كَانَ عِنْدَهُ. وَمَعْنَى "عُطِّلَتْ" سُيِّبَتْ وَأُهْمِلَتْ لِاشْتِغَالِهِمْ عَنْهَا بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ.

﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)﴾ أَيْ جُمِعَتْ بَعْدَ الْبَعْثِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُحْشَرُ الْوُحُوشُ غَدًا، أَيْ تُجْمَعُ حَتَّى يُقْتَصَّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ تُرَدُّ تُرَابًا، وَهَذَا عَلَى وَجْهِ ضَرْبِ الْمَثَلِ لإِظْهَارِ الْعَدْلِ وَإلا فَلا تَكْلِيفَ عَلَى الْبَهَائِمِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْبَهَائِمَ لَهَا أَرْوَاحٌ.

﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَذْهَبُ مَاؤُهَا فَلا يَبْقَى قَطْرَةٌ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ مُعَلَّقًا، وَقَالَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ﴿سُجِّرَتْ﴾ أَيْ أُوقِدَتْ فَاشْتَعَلَتْ نَارًا، ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْهُمَا.

﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)﴾ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَعَالِيقِهِ عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ: هُوَ الرَّجُلُ يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالرَّجُلُ يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: "وَهَذَا إِسْنَادٌ مُتَّصِلٌ صَحِيحٌ".

﴿وَإِذَا الْمَوْءُودةُ سُئِلَتْ (8)﴾ وَهِيَ الْجَارِيَةُ تُدْفَنُ وَهِيَ حَيَّةٌ وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ بِنْتًا دَفَنَهَا حَيَّةً إِمَّا خَوْفًا مِنَ السَّبِيِّ وَالاسْتِرْقَاقِ، وَإِمَّا خَشْيَةَ الْفَقْرِ وَالإِمْلاقِ، وَكَانَ ذَوُو الشَّرَفِ مِنْهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ هَذَا وَيَمْنَعُونَ مِنْهُ، وَكَانَ صَعْصَعَةُ جَدُّ الْفَرَزْدَقِ يَشْتَرِيهِنَّ مِنْ ءَابَائِهِنَّ، فَجَاءَ الإِسْلامُ وَقَدْ أَحْيَا سَبْعِينَ مَوْءُودَةً. وَسُؤَالُهَا إِنَّمَا هُوَ لِتَبْكِيتِ وَائِدِهَا وَتَوْبِيخِهِ. وَالتَّبْكِيتُ هو التَّقْرِيعُ وَالتَّعْنِيفُ.

﴿بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)﴾ هُوَ حِكَايَةٌ لِمَا تُخَاطَبُ بِهِ وَجَوَابُهَا أَنْ تَقُولَ: بِلا ذَنْبٍ، فَيَكُونَ أَعْظَمَ فِي الْبَلِيَّةِ وَظُهُورِ الْحُجَّةِ عَلَى قَاتِلِهَا.

﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)﴾ يَعْنِي صُحُفَ الأَعْمَالِ الَّتِي كَتَبَتْ فِيهَا الْمَلائِكَةُ مَا فَعَلَ أَهْلُهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ تُطْوَى بِالْمَوْتِ وَتُنْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقِفُ كُلُّ إِنْسَانٍ عَلَى صَحِيفَتِهِ فَيَعْلَمُ مَا فِيهَا فَيَقُولُ: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إلا أَحْصَاهَا﴾ [سُورَةَ الْكَهْف آية 49]، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ.

﴿وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)﴾ قَالَ الزَّجَاجُ: قُلِعَتْ كَمَا يُقْلَعُ سَقْفُ الْبَيْتِ، وَالْكَشْطُ الْقَلْعُ عَنْ شِدَّةِ الْتِزَاقٍ.

﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)﴾ أَيْ أُوقِدَتِ النَّارُ إِيقَادًا شَدِيدًا، وَالسَّعَرُ: الْتِهَابُ النَّارِ وَشِدَّةُ إِضْرَامِهَا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "أُوقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفُ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفُ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفُ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

﴿وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)﴾ أَيْ قُرِّبَتْ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَتَأْوِيلُهُ أَيْ قَرُبَ دُخُولُهُمْ فِيهَا وَنَظَرُهُمْ إِلَيْهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُقَرَّبُونَ مِنْهَا وَلا تَزُولُ عَنْ مَوْضِعِهَا، وَالآيَاتُ الَّتِي سَتَأْتِي هِيَ جَوَابُ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا.

﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (14)﴾ أَيْ عَلِمَتْ كُلُّ نَفْسٍ فَكَلِمَةُ "نَفْسٍ" نَكِرَةٌ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ، مَا أَحْضَرَتْهُ فِي صَحَائِفِهَا مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ تَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ أَوْ عَمَلٍ سَيِّءٍ قَبِيحٍ تَسْتَحِقُّ بِهِ دُخُولَ النَّارِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.