تفسير سورة التكوير آية 15 إلى 22

﴿فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)﴾ قَالَ النَّسَفِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ "لا" زَائِدَةٌ وَالْمَعْنَى أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، وَالْخُنَّسُ: جَمْعُ خَانِسٍ وَخَانِسَةٍ، وَخَنَسَ عَنْهُ: تَأَخَّرَ، قَالَ الْحَافِظُ: "قَوْلُهُ - أَيِ الْبُخَارِيّ - (وَالْخُنَّسُ تَخْنِسُ فِي مَجْرَاهَا تَرْجِعُ وَتَكْنِسُ تَسْتَتِرُ فِي بُيُوتِهَا كَمَا تَكْنِسُ الظِّبَاءُ)، قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ﴾ وَهِيَ النُّجُومُ الْخَمْسَةُ تَخْنُسُ فِي مَجْرَاهَا تَرْجِعُ، وَتَكْنِسُ تَسْتَتِرُ فِي بُيُوتِهَا كَمَا تَكْنِسُ الظِّبَاءُ فِي الْمَغَايِرِ وَهِيَ الْكِنَاسُ، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالنُّجُومِ الْخَمْسَةِ: بَهْرَام - وَهُوَ الْمَرِّيخُ - وَزُحَلُ، وعُطَارِدُ، والزُّهْرَةُ، وَالْمُشْتَرِي" اهـ، ثُمَّ قَالَ : "وَرَوَى سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: هُنَّ الْكَوَاكِبُ تَكْنِسُ بِاللَّيْلِ وَتَخْنُسُ بِالنَّهَارِ فَلا تُرَى" اهـ. وَقَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: "وَخُنُوسُهَا اسْتِخْفَاؤُهَا بِالنَّهَارِ" اهـ، وَقَالَ: "وَالْخُنُوسُ: الانْقِبَاضُ وَالاسْتِخْفَاءُ" اهـ.

﴿الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)﴾ الكُنَّسُ: جَمْعُ كَانِسٍ وَكَانِسَةٍ، وَالْكَانِسُ مِنَ الْوَحْشِ مَا دَخَلَ فِي كِنَاسِهِ وَهُوَ الْغُصْنُ مِنْ أَغْصَانِ الشَّجَرِ كَالظَّبْيِّ وَبَقَرِ الْوَحْشِ، وَالْمُرَادُ بِالْجَوَارِي النُّجُومُ، وَالكُنَّسُ الَّتِي تَغِيبُ.

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)﴾ قَالَ الْخَلِيلُ: أَقْسَمَ بِإِقْبَالِ اللَّيْلِ وَإِدْبَارِهِ، وَ﴿عَسْعَسَ﴾ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ فَهُوَ مِنَ الأَضْدَادِ.

﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)﴾ الصُّبْحُ: الْفَجْرُ وَهُوَ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَ﴿إِذَا تَنَفَّسَ﴾ إِذَا امْتَدَّ ضَوْؤُهُ، وَهَذَا قَسَمٌ وَجَوَابُهُ هُوَ

﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَريِمٍ (19)﴾، ﴿إنَّهُ﴾ أَيِ الْقُرْءَان وَ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ كَريِمٍ﴾ إِلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وَهُوَ عَزِيزٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ جِبْرِيلُ أُضِيفَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْقُرْءَانِ لِنُزُولِهِ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)﴾ أَيْ شَدِيدِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَا يُكَلَّفُ بِهِ لا يَعْجِزُ عَنْهُ وَلا يَضْعُفُ، وَقَدْ بَلَغَ مِنْ قُوَّتِهِ أَنَّهُ قَلَعَ قُرَى ءَالِ لُوطٍ وَقَلَبَهَا فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ذُو مَرْتَبَةٍ رَفِيعَةٍ وَشَرَفٍ عَظِيمٍ.

﴿مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)﴾ أَيْ أَنَّ جِبْرِيلَ مُطَاعٌ تُطِيعُهُ الْمَلائِكَةُ، وَقَوْلُهُ: ﴿ثَمَّ﴾ أَيْ فِي السَّمَوَاتِ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَ"ثَمَّ" بِالْفَتْحِ اسْمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى الْمَكَانِ الْبَعِيدِ، وَهُوَ أَمِينٌ بِمَعْنَى مَأْمُون كَمَا يُقَالُ: قَتِيلٌ بِمَعْنَى مَقْتُول، أَيْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى الْوَحْيِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ. وَقَرَأَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ: "ثُمَّ" بِضَمِّ الثَّاءِ.

﴿وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22)﴾ هَذَا عَطْفٌ عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ الَّذِي هُوَ ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ وَالْمُرَادُ بِصَاحِبُكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْخِطَابُ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَلَيْسَ مُحَمَّدٌ مَجْنُونًا حَتَّى يُتَّهَمَ فِي قَوْلِهِ كَمَا يَزْعُمُ الْكَفَرَةُ بُهْتَانًا بَلْ هُوَ صَادِقٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَزَاهُ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِهِ خَيْرًا، وَالْمَجْنُونُ هُوَ الَّذِي أَلَمَّتْ بِهِ الْجِنُّ أَوْ أَصَابَهُ نَقْصٌ أَوْ عِلَّةٌ فِي دِمَاغِهِ فَسُتِرَ عَقْلُهُ، وَسُمِّيَ الْمَجْنُونُ مَجْنُونًا لِاسْتِتَارِ عَقْلِهِ.