تفسير سورة التكوير آية 23 إلى 29
﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ (23)﴾ أَيْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَالْمُرَادُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ نَاحِيَةُ مَشْرِقِ الشَّمْسِ.
﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)﴾ أَيْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَبْخَلُ بِتَبْلِيغِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ.
﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (25)﴾ أَيْ وَمَا الْقُرْءَانُ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقَةِ لِلسَّمْعِ تُرْجَمُ بِالشُّهُبِ يُلْقِيهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا زَعَمَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَرَجِيمٌ بِمَعْنَى مَرْجُومٍ نَحْوُ قَتِيلٌ وَجَرِيحٌ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ وَمَجْرُوحٍ.
﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)﴾ هُوَ اسْتِضْلالٌ لِلْكُفَّارِ حَيْثُ نَسَبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً إِلَى الْجُنُونِ وَمَرَّةً إِلَى الْكَهَانَةِ وَمَرَّةً إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ وَذَلِكَ كَمَا يُقَالُ لِتَارِكِ الْجَادَّةِ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ فَالْمَعْنَى فَأَيُّ طَرِيقٍ أَهْدَى لَكُمْ وَأَرْشَدُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ؟!
﴿إِنْ هُوَ إلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27)﴾ قَالَ النَّسَفِيُّ: أَيْ مَا الْقُرْءَانُ إلا عِظَةٌ لِلْخَلْقِ.
﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)﴾ أَيْ أَنَّ الْقُرْءَانُ ذِكْرٌ وَعِظَةٌ لِمَنْ شَاءَ الاسْتِقَامَةَ بِالدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ فَيَنْتَفِعُ بِالْذِكْرِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَسْتَقِمْ عَلَى الْحَقِّ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَذَا الذِّكْرِ.
ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ لِلِاسْتِقَامَةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)﴾ أَيْ وَمَا تَشَاءُونَ الاسْتِقَامَةَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ تِلْكَ الْمَشِيئَةَ، فَأَعْلَمَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَشِيئَةَ فِي التَّوْفِيقِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا خَصَّصَ تَعَالَى مَنْ شَاءَ الاسْتِقَامَةَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا وَتَنْبِيهًا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ بِهَذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ لا يَعْمَلُ الْعَبْدُ خَيْرًا إلا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَلا شَرًّا إلا بِخِذْلانِهِ، وَفِي التَّنْزِيلِ: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام آية 111]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إلا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ يُونُس آية 100]، وَقَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [سُورَةَ الْقَصَص آية 55] وَالآيُ فِي هَذَا كَثِيرٌ وَكَذَلِكَ الأَخْبَارُ، وَأَنَّ اللَّهَ هَدَى بِالإِسْلامِ وَأَضَلَّ بِالْكُفْرِ" اهـ. وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَيْ مَالِكُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ فَهُوَ مَالِكٌ لِأَعْمَالِهِمْ وَخَالِقٌ لَهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى كَمَا قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سُورَةَ الصَّافَّات آية 96]، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَانِعُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ"، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام آية 110] فَتَقْلِيبُ اللَّهِ أَفْئِدَةَ الْعِبَادِ فِيهِ دِلالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَتَقْلِيبُ اللَّهِ أَبْصَارَ الْعِبَادِ فِيهِ دِلالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَضْلًا مِنْهُ وَكَرَمًا وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ عَدْلًا ؛ فَمَنْ جَعَلَ الْمَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ لا لِرَبِّ الْعِبَادِ فَقَدْ كَفَرَ وَضَلَّ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ جَاءُوا يُجَادِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [سُورَةَ الْقَمَر].
وَعَلَى تَكْفِيرِهِمْ لِقَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ نَصَّ الْقُرْءَانُ الْكَريِمُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ الَّذِينَ لا يُعْتَبَرُ مُخَالِفُهُمْ وَذَلِكَ لِثُبُوتِ حَدِيثِ "الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ تَكْفِيرَهُمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ، فَمِنَ الصَّحَابَةِ: عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ عَمَّنْ لا يُحْصَى مِنَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، وَعَلَى تَكْفِيرِهِمْ نَصَّ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالأَشْعَرِيُّ وَالْمَاتِرِيدِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلا يَجُوزُ الشَكُّ فِي تَكْفِيرِ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِتَكْذِيبِهِ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد آية 16] وَقَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سُورَةَ الصَّافَّات آية 96].
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿لِمَنْ شَآءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: ذَاكَ إِلَيْنَا إِنْ شِئْنَا اسْتَقَمْنَا وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَسْتَقِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [سُورَةَ الصَّافَّات آية 29]. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيق وَأَبُو الْمُتَوَكِّل وَأَبُو عِمْرَان "وَمَا يَشَاءُونَ" بِالْيَاءِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.