تفسير سورة الانفطار آية 1 إلى 12

﴿إِذَا السَّمَآءُ انْفَطَرَتْ (1)﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ: انْفِطَارُهَا انْشِقَاقُهَا.

﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)﴾ أَيْ تَسَاقَطَتْ مِنْ مَوَاضِعِهَا.

﴿وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)﴾ قَالَ الرَّبِيعُ بنُ خَثْيَمَ: فُجِّرَتْ فَاضَتْ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا.

﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)﴾ أَيْ أُثِيرَتْ وَقُلِبَ أَسْفَلُهَا أَعْلاهَا وَبَاطِنُهَا ظَاهِرَهَا فَتَنْشَقُّ وَيُبْعَثُ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى أَحْيَاءً، وَجَوَابُ ﴿وَإِذَا﴾ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)﴾ أَيْ مَا قَدَّمَتْ مِنْ طَاعَةٍ وَأَخَّرَتْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَريِمِ (6)﴾ وَالْمُرَادُ بِالإِنْسَانِ هُنَا الإِنْسَانُ الْكَافِرُ، وَقِيلَ: أُنْزِلَتْ فِي أُبَيِّ بنِ خَلَفٍ، وَهَذَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ أَيْ: مَا الَّذِي غَرَّكَ وَخَدَعَكَ حَتَّى كَفَرْتَ بِرَبِّكَ الْكَريِمِ الَّذِي تَفَضَّلَ عَلَيْكَ بِأَنْوَاعِ الإِحْسَانِ، وَالْغَرُورُ كُلُّ مَا يَغُرُّ الإِنْسَانَ مِنْ مَالٍ وَجَاهٍ وَشَهْوَةٍ وَشَيْطَانٍ، وَقِيلَ: الدُّنْيَا تَغُرُّ وَتَضُرُّ وَتَمُرُّ، وَالْمُرَادُ مَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِمَّا لا خَيْرَ فِيهِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَجَوَابُ السُّؤَالِ غَرَّهُ شَيْطَانُهُ، وَمِنْ مَعَانِي اسْمِهِ تَعَالَى الْكَريِمِ أَنَّهُ الصَّفُوحُ الَّذِي لا يُعَاجِلُ بِالذَّنْبِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَنْعِ عَنِ الاغْتِرَارِ فَإِنَّ مَحْضَ الْكَرَمِ لا يَقْتَضِي إِهْمَالَ الظَّالِمِ وَتَسْوِيَةَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي فَكَيْفَ إِذَا انْضَمَّ لَهُ صِفَةُ الْقَهْرِ وَالانْتِقَامِ، وَكَذَا لِلإِشْعَارِ بِالَّذِي بِهِ يَغُرُّهُ الشَّيْطَانُ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهُ: افْعَلْ مَا شِئْتَ فَرَبُّكَ الْكَريِمُ لا يُعَذِّبُ أَحَدًا، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بنُ صُبَيْحِ بنِ السَّمَّاكُ الزَّاهِدُ الْقُدْوَةُ:

يَا كَاتِمَ الذَّنْبِ أَمَا تَسْتَحِي   وَاللَّهُ فِي الْخَلْوَةِ رَائِيكَا
غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إِمْهَالُهُ   وَسَتْرُهُ طُولَ مَسَاوِيكَا

وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : «كَمْ مِنْ مَغْرُورٍ تَحْتَ السَّتْرِ وَهُوَ لا يَشْعُر اهـ.» نَسْأَلُ اللَّهَ الْمُسَامَحَةَ وَالسَّتْرَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)﴾ قَوْلُهُ ﴿الَّذِي خَلَقَكَ﴾ أَيِ: الَّذِي قَدَّرَ خَلْقَكَ مِنْ نُطْفَةٍ، ﴿فَسَوَّاكَ﴾ أَيْ: جَعَلَ أَعْضَاءَكَ سَلِيمَةً مُسَوَّاةً مُعَدَّةً لِمَنَافِعِهَا مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فَلَمْ يَجْعَلْ إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَطْوَلَ وَلا إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ أَوْسَعَ وَلا بَعْضَ الأَعْضَاءِ أَبْيَضَ وَبَعْضَهَا أَسْوَد. قَالَ الْبُخَارِيُّ : « وَقَرَأَ الأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ ﴿فَعَدَلَكَ﴾ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ بِالتَّشْدِيدِ وَأَرَادَ مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ، وَمَنْ خَفَّفَ يَعْنِي فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ إِمَّا حَسَنٌ وَإِمَّا قَبِيحٌ أَوْ طَوِيلٌ أَوْ قَصِيرٌ » اهـ.

 ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)﴾ فَقَوْلُهُ ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ﴾ مُتَعَلِّقٌ ﴿بِرَبِّكَ﴾ أَيْ أَنَّ رَبَّكَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكَ عَلَى أَيِّ صُورَةٍ اقْتَضَتْهَا مَشِيئَتُهُ تَعَالَى مِنَ الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْحُسْنِ وَالقُبْحِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالذُّكُورَةِ وَالأُنُوثَةِ وَالشَّبَهِ بِبِعَضِ الأَقَارِبِ دُونَ بَعْضٍ.

﴿كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدّينِ (9)﴾ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلائِلِ الْعَقْلِيَّةِ صِحَّةَ الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَرَّعَ عَلَيْهَا شَرْحَ بَعْضِ تَفَاصِيلِ الأَحْوَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَلا﴾ فِيهَا مَعْنَى الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ عَنِ الاغْتِرَارِ بِكَرَمِ اللَّهِ بِتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ أَيْ تُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ غَيْرُ كَائِنٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: «بَلْ يُكَذِّبُونَ» بِالْيَاءِ.

ثُمَّ أَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ مَحْفُوظَةٌ فَقَالَ تَعَالَى ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)﴾ أَيْ مِنَ الْمَلائِكَةِ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ وَأَقْوَالَكُمْ.

 ﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)﴾ فَهُمْ كِرَامٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى يَكْتُبُونَ عَلَى الْعِبَادِ أَعْمَالَهُمْ بَلْ وَأَفْعَالَ قُلُوبِهِمْ يَكْتُبُونَهَا بِإِطْلاعِ اللَّهِ لَهُمْ عَلَيْهَا لِيُجَازَوْا عَلَيْهَا، وَفِي تَعْظِيمِ الْكَتَبَةِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ الْجَزَاءِ.

﴿يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)﴾ أَيْ لا يَخْفَى عَلَيْهِمْ شَىْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ مِنْ خَيْرِ أَوْ شَرٍّ فَيَكْتُبُونَهُ عَلَيْكُمْ.