تفسير سورة الانشقاق آية 16 إلى 25

﴿فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)﴾ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: "لا" زَائِدَةٌ، وَالْمُرَادُ: فَأُقْسِمُ، وَالشَّفَقُ: هُوَ الْحُمْرَةُ فِي الأُفُقِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ فَيَدْخُلَ الْعِشَاءُ فِي قَوْلِ الأَكْثَرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ الْبَيَاضُ بَعْدَ الْغُرُوبِ.

﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)﴾ قَالَ الْحَافِظُ: "أَخْرَجَ سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)﴾ قَالَ: وَمَا دَخَلَ فِيهِ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ" اهـ، وَالْمُرَادُ بِمَا جَنَّ اللَّيْلُ أَيْ سَتَرَ كَالْجِبَالِ وَالأَشْجَارِ وَالْبِحَارِ وَالأَرْضِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿وَمَا وَسَقَ﴾ "أَيْ وَمَا جَمَعَ، أَيْ مِمَّا كَانَ بِالنَّهَارِ مُنْتَشِرًا فِي تَصَرُّفِهِ إِلَى مَأْوَاهُ"، قَالَ عِكْرِمَةُ: "لأَنَّ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ تَسُوقُ كُلَّ شَىْءٍ إِلَى مَأْوَاهُ".

﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)﴾ قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: "إِذَا تَمَّ وَاسْتَوَى وَاجْتَمَعَ"، قَالَ الْفَرَّاءُ: "اتِّسَاقُهُ اجْتِمَاعُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ لَيْلَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ إِلَى سِتَّ عَشْرَةَ".

فَائِدَةٌ: قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَالْبَيْهَقِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهْرِ، أَيَّامُ الْبِيضِ صَبِيحَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ".

﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)﴾ قَوْلُهُ ﴿لَتَرْكَبُنَّ﴾ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ فِي قِرَاءَةِ عَاصِمٍ وَنَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَابْنِ عَامِرٍ، وَمَعْنَاهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وَقَوْلُهُ ﴿طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)﴾ رَوَى الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "حَالا بَعْدَ حَالٍ"، وَالْمُرَادُ: الشَّدَائِدُ وَالأَهْوَالُ، الْمَوْتُ ثُمَّ الْبَعْثُ ثُمَّ العَرْضُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ: "مَنْزِلَةً بَعْدَ مَنْزِلَةٍ"، قَوْمٌ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُتَّضِعِينَ فَارْتَفَعُوا فِي الآخِرَةِ وَقَوْمٌ كَانُوا مُرْتَفِعِينَ فِي الدُّنْيَا فَاتَّضَعُوا فِي الآخِرَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "لَتَرْكَبَنَّ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْبَاءِ وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثَّانِي: أَنَّ الإِشَارَةَ إِلَى السَّمَاءِ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَتَغَيَّرُ ضُرُوبًا مِنَ التَّغْيِيرِ فَتَارَةً كَالْمُهْلِ وَتَارَةً كاَلدِّهَانِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَأَبُو الأَشْهَبِ: "لَيَرْكَبَنَّ" بِالْيَاءِ وَنَصْبِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ وَأَبُو عِمْرَانَ وَابْنُ يَعْمُر: "لَيَرْكَبُنَّ" بِالْيَاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ. وَ"عَنْ" بِمَعْنَى: "بَعْدَ".

﴿فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)﴾ فَمَا لَهُمْ يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ لا يُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْءَانِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ كَمَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيُّ، وَالْمُرَادُ: أَيُّ حُجَّةٍ لِلْكُفَّارِ فِي تَرْكِ الإِيـمَانِ مَعَ وُجُودِ بَرَاهِينِهِ ؟!

﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لا يَسْجُدُونَ (21)﴾ قَالَ أَبُو حَيَّانَ: "أَيْ لا يَتَوَاضَعُونَ وَيَخْضَعُونَ".

﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (22)﴾ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْءَانِ وَالْبَعْثِ.

﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ : "أَيْ مَا يَجْمَعُونَ فِي صُدُورِهِمْ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالإِثْمِ".

﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)﴾ قَالَ الزَّجَّاجُ: "أَيِ اجْعَلْ لِلْكُفَّارِ بَدَلَ الْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ وَالرَّحْمَةِ الْعَذَابَ الأَلِيمَ".

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إلا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)﴾ : اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، كَأَنَّهُ قَالَ لَكِنِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِشَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَيْ أَدَّوِا الْفَرَائِضَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَيْهِمْ، ﴿لَهُمْ أَجْرٌ ﴾ أَيْ ثَوَابٌ، ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ أَيْ غَيْرُ مَنْقُوصٍ وَلا مَقْطُوعٍ"، ثُمَّ قَالَ: "وَذَكَرَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَوْلَهُ ﴿إلا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ لَيْسَ اسْتِثْنَاءً وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِينَ ءَامَنُوا".

وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَم.