تفسير سورة البقرة آية 1

- تفسير النسفي - تفسير سورة البقرة -

سورة البقرة مدنيّة وهي مائتان وستّ أو وسبعٌ وثمانون آيةً

تفسير قوله تعالى الم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الم

المبتدأ المحذوف، أي بعده ألم (بعده اسم الإشارة مبتدأ وألم خبرا) ونظائِرُهَا: أَسْمَاءٌ (معناه إنّها ليست حروفًا بل هي أسماءٌ) مُسَمَّيَاتُهَا الْحُرُوفُ الْمَبْسُوطَةُ الَّتِي مِنْهَا رُكِّبَتِ الْكَلِمُ، وَالْأَلِفُ تَدَلُّ عَلَى أَوّلِ حُرُوفِ قَالَ، وَاللَّامُ تَدُلُّ عَلَى الْحَرْفِ الْأَخِيرِ مِنْهُ وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا أَسْمَاءٌ أَنَّ كُلًّا مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَيتصَرَّفُ فِيهَا بِالْإِمَالَةِ، وَالتَّفْخِيمِ، وَبِالتَّعْرِيفِ، وَالتَّنْكِيرِ، وَالْجَمْعِ، وَالتَّصْغِيرِ (يقال بأل يقال ألف ويقال الألفُ ويقال الألفات ويقال أُلَيْفٌ بمعنى ألِف صغير)

وَهِيَ مُعْرَبَةٌ، وَإِنَّمَا سُكِّنَتْ سُكُونَ زَيْدٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ، حَيْثُ لَا يَمَسُّهَا إِعْرَابٌ (أي ليست معربة) لِفَقْدِ مُقْتَضِيهِ (معناه ما دخلت عليها العوامل هذا القول الرّاجح). وَقِيلَ: إِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ كَالْأَصْوَاتِ نَحْوُ: غَاقْ، فِي حِكَايَةِ صَوْتِ الْغُرَابِ، ثُمَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا أَسْمَاءُ السُّوَرِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: إِنَّهَا اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَمَا سُمِّيَتْ مُعْجَمَةً إِلَّا لِإِعْجَامِهَا (لأنها تدخلُ في كلماتٍ شتّى) وَإِبْهَامِهَا.

وَقِيلَ: وُرُودُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ كَالْإِيقَاظِ لِمَنْ تُحدّي بِالْقُرْآنِ، وَكَالتَّحْرِيكِ لِلنَّظَرِ فِي أَنَّ هَذَا الْمَتْلُوَّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ عَجَزُوا عَنْهُ عن آخِرِهِمْ، كَلَامٌ مَنْظُومٌ مِنْ عَيْنِ مَا يَنْظِمُونَ مِنْهُ كَلَامَهُمْ ؛ لِيُؤَدِّيَهُمُ النَّظَرُ إِلَى أَنْ يَسْتَيْقِنُوا أَنْ لَمْ تَتَسَاقَطْ مَقْدِرَتُهُمْ دُونَهُ، وَلَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُمْ عَنْ أَنْ يأتُوا بِمِثْلِهِ بَعْدَ الْمُرَاجَعَاتِ الْمُتَطَاوِلَاتِ، وَهُمْ أُمَرَاءُ الْكَلَامِ (أي فُصحاء)، إِلَّا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ، وَأَنَّهُ كَلَامُ خَالِقِ الْقُوَى وَالْقُدَر وَهَذَا الْقَوْلُ مِنَ الْخَلَاقَةِ بِالْقَبُولِ بِمَنْزِلٍ.

وَقِيلَ: إِنَّمَا وَرَدَتِ السُّورُ مُصَدَّرَةً بِذَلِكَ لِيَكُونَ أَوَّلَ مَا يَقْرَعُ الْأَسْمَاعَ مُسْتَقِلًّا بِوَجْهٍ مِنَ الْإِعرَابِ (وفي نسخة الإغراب) وَتَقْدِمَةً مِنْ دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَذَلِكَ أَنَّ النُّطْقَ بِالْحُرُوفِ أَنْفُسِهَا كَانَتِ الْعَرَبُ فِيهِ مُسْتَوِيَةَ الْأَقْدَامِ: الْأُمِّيُّونَ مِنْهُمْ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، بِخِلَافِ النُّطْقِ بِأَسَامِي الْحُرُوفِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُخْتَصًّا بِمَنْ خَطَّ وَقَرَأَ (معناه ألف باء تاء ثاء جيم حاء خاء هذا كان لا يعرفه كلّ العربِ مع كونِهم فصحاءُ إنما اختصّ به الذين تعلّموا الخطّ)، وَخَالَطَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ، وَكَانَ مُسْتَبْعَدًا مِنَ الْأُمِّيِّ التَّكَلُّمُ بِهَا اسْتِبْعَادَ الْخَطِّ وَالتِّلَاوَةِ، فَكَانَ حُكْمُ النُّطْقِ بِذَلِكَ مَعَ اشْتِهَارِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنِ اقْتَبَسَ شَيْئًا مِنْ أَهْلِهِ حُكْمَ الْأَقَاصِيصِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ، الَّتِي لَمْ تَكُنْ قُرَيْشٌ وَمَنْ يُضَاهِيهِمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْإِحَاطَةِ بِهَا، فِي أَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ، وَشَاهِدٌ لِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (الرّسولُ كان أمّيّا وكان على حسب العادة مستبعدًا منه أن يتكلّم بها أي بهذه الحروفِ ألف لام ميم وما أشبه ذلك).

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْفَوَاتِحِ نِصْفُ أَسَامِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَهِيَ: الْأَلِفُ، وَاللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالصَّادُ، وَالرَّاءُ، وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالْيَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالطَّاءُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالْقَافُ، وَالنُّونُ، فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سُورَةً عَلَى عَدَدِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنْصَافِ أَجْنَاسِ الْحُرُوفِ (من عدّ الألفَ اللّينة حرفًا مستقلّاً غير الألف المتحركة يعدّ حروف المعجمِ تسعًا وعشرين ومن عدَّ الألف الألفَ اللّينة والمتحرّكة حرفًا واحدًا عدّ حروف المعجمِ ثمانيةً وعشرين). فَمِنَ الْمَهْمُوسَةِ نَصِفُهَا: الصَّادُ، وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ. وَمِنَ الْمَجْهُورَةِ نَصِفُهَا: الْأَلِفُ، وَاللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالرَّاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالطَّاءُ، وَالْقَافُ، وَالْيَاءُ، وَالنُّونُ، وَمِنَ الشَّدِيدَةِ نِصْفُهَا: الْأَلِفُ، وَالْكَافُ، وَالطَّاءُ، وَالْقَافُ. وَمِنَ الرِّخْوَةِ نَصِفُهَا: اللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالرَّاءُ، وَالصَّادُ، وَالْهَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالْيَاءُ، وَالنُّونُ. وَمِنَ الْمُطْبَقَةِ نَصِفُهَا: الصَّادُ، وَالطَّاءُ، وَمِنَ الْمُنْفَتِحَةِ نِصْفُهَا: الْأَلِفُ، وَاللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالرَّاءُ، وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالْقَافُ، وَالْيَاءُ، وَالنُّونُ. وَمِنَ الْمُسْتَعْلِيَةِ نَصِفُهَا: الْقَافُ، وَالصَّادُ، وَالطَّاءُ. وَمِنَ الْمُنْخَفِضَةِ نِصْفُهَا: الْأَلِفُ، وَاللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالرَّاءُ، وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالْيَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالنُّونُ. وَمِنْ حُرُوفِ الْقَلْقَلَةِ نَصِفُهَا: الْقَافُ، وَالطَّاءُ. وَغَيْرُ الْمَذْكُورَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ مَكْثُورَةٌ بالْمَذْكُورَةِ مِنْهَا (معناه مغلوبة من حيث الكثرة بالمذكورة)، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مُعْظَمَ الشَّيْءِ يُنزَّلُ مَنْزِلَةَ كُلِّهِ، فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَدَّدَ عَلَى الْعَرَبِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي مِنْهَا تَرَاكِيبُ كَلَامِهِمْ، إِشَارَةً إِلَى مَا مَرَّ مِنَ التَّبْكِيتِ لَهُمْ، وَإِلْزَامِ الْحُجَّةِ إِيَّاهُمْ. وَإِنَّمَا جَاءَتْ مُفَرَّقَةً عَلَى السُّوَرِ ؛ لِأَنَّ إِعَادَةَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْمُتَحَدَّى بِهِ مُؤَلَّفًا مِنْهَا لَا غَيْرُ أَوْصَلُ إِلَى الْغَرَضِ، وَكَذَا كُلُّ تَكْرِيرٍ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ، فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ تَمْكِينُ الْمُكَرَّرِ فِي النُّفُوسِ وَتَقْرِيرُهُ.

وَلَمْ يَجِئْ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلِ اخْتَلَفَتْ أَعْدَادُ حُرُوفِهَا مِثْلُ: ص، وَق، وَن، وَطَهَ، وَطس، وَيَس، وَحَم، وَالَمْ، وَالر، وَطسم، وَالْمَص، وَالمَر، وَكَهَيعص، وَحَمْ عسق، فَوَرَدَتْ عَلَى حَرْفٍ وَحَرْفَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَخَمْسَةٍ، كَعَادَةِ افْتِنَانِهِمْ فِي الْكَلَامِ. وَكَمَا أَنَّ أَبْنِيَةَ كَلِمَاتِهِمْ عَلَى حَرْفٍ وَحَرْفَيْنِ إِلَى خَمْسَةِ أَحْرُفٍ، سُلك (في نسخة فسُلك) فِي الْفَوَاتِحِ هَذَا الْمَسْلَكُ. وَالَمْ آيَةٌ حَيْثُ وَقَعَتْ، وَكَذَا الْمَص آيَةٌ، وَالمَر لَمْ تُعَدَّ آيَةً، وَكَذَا الر لَمْ تُعَدَّ آيَةً فِي سُوَرِهَا الْخَمْسِ، وَطسم آيَةٌ فِي سُورَتَيْهَا، وَطَهَ وَيس آيَتَانِ، وَطْس لَيْسَتْ بِآيَةٍ، وَحَم آيَةٌ فِي سُوَرِهَا كُلِّهَا، وَحَم عسق آيَتَانِ، وَكهعيص آيَةٌ، وَص وَن وَق ثَلَاثَتُهَا لَمْ تُعَدَّ آيَةً، وَهَذَا عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَمَنْ عَدَاهُمْ لَمْ يَعُدَّوا شَيْئًا مِنْهَا آيَةً.

وَهَذَا عِلْمٌ تَوْقِيفِيٌّ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ كَمَعْرِفَةِ السُّوَرِ، وَيُوقَفُ عَلَى جَمِيعِهَا وَقْفَ التَّمَامِ إِذَا حُمِلَتْ عَلَى مَعْنًى مُسْتَقِلٍّ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إِلَى مَا بَعْدَهُ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ تُجْعَلْ أَسْمَاءً لِلسُّوَرِ، وَنُعِقَ بِهَا كَمَا يُنْعَقُ بِالْأَصْوَاتِ، أَوْ جُعِلَتْ وَحْدَهَا أَخْبَارَ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ كَقَوْلِهِ: الم أَيْ: هَذِهِ الم، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (الله لا إله إلا هو الحيُّ القيّوم: لفظ الجلالة الله مبتدأ ، لا إله إلا هو خبر، الحيُّ القيّوم صفتان)

وَلِهَذِهِ الْفَوَاتِحِ مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ فِيمَنْ جَعَلَهَا أَسْمَاءً لِلسُّوَرِ ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَهُوَ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَوِ النَّصْبُ أَوِ الْجَرّ لِصِحَّةِ الْقَسَمِ بِهَا، وَكَوْنِهَا بِمَنْزِلَةِ: اللَّهَ وَاللَّهِ عَلَى اللُّغَتَيْنِ. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهَا أَسْمَاءً لِلسُّوَ لَمْ يَتَصَوَّرْ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَحَلٌّ فِي مَذْهَبِهِ، كَمَا لَا مَحَلَّ لِلْجُمْلَةِ الْمُبْتَدَأَةِ وَلِلْمُفْرَدَاتِ الْمَعْدُودَةِ. (إذا قلت زيد عمرو بكر عثمان خالد هذا غيرُ معرب، ليس له محلّ من الإعراب، وهذه الفواتح هكذا تكون على هذا التقدير)

تفسير القرآن الكريم تفسير النسفي تفسير قرآن أهل السنة والجماعة تفسير قرآن كامل تفسير سورة البقرة آية 1