تفسير سورة البقرة آية 2
ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ
2 - ذَلِكَ الْكِتَابُ أَيْ: ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي وعد به عَلَى لِسَانِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، أَوْ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الم. وَإِنَّمَا ذُكِّرَ اسْمُ الْإِشَارَةِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مُؤَنَّثٌ، وَهُوَ السُّورَةُ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ إِنْ كَانَ خَبَرَهُ كَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَاهُ، وَمُسَمَّاهُ مُسَمَّاهُ، فَجَازَ إِجْرَاءُ حُكْمِهِ عَلَيْهِ بِالتَّذْكِيرِ والتأنيثِ (للحكاية) وَإِنْ كَانَ صِفَتَهُ (إن كان الكتابُ صفتَهُ) فَالْإِشَارَةُ بِهِ إِلَى الْكِتَابِ صَرِيحًا ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ مُشَارٌ بِهِ إِلَى الْجِنْسِ الْوَاقِعِ صِفَةً لَهُ. تَقُولُ: هِنْدٌ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ، أَوْ ذَلِكَ الشَّخْصُ فَعَلَ كَذَا (يجوز أيضًا) وَوجه تَأْلِيفِ ذَلِكَ الْكِتَابِ مَعَ "الم" إِنْ جَعَلْتَ "الم" اسْمًا لِلسُّورَةِ أَنْ يَكُونَ "الم" مُبْتَدَأً، وَذَلِكَ مُبْتَدَأً ثَانِيًا، وَالْكِتَابُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْكِتَابُ الْكَامِلُ، كَأَنَّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْكُتُبِ فِي مُقَابَلَتِهِ نَاقِصٌ، كَمَا تَقُولُ: هُوَ الرَّجُلُ، أَيِ: الْكَامِلُ فِي الرُّجُولِيَّةِ، (في نسخة أي) الْجَامِعُ لِمَا يَكُونُ فِي الرِّجَالِ مِنْ مَرْضِيَّاتِ الْخِصَالِ. وَأَنْ يَكُونَ "الم" خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذِهِ "الم" جُمْلَةٌ، وَذَلِكَ الْكِتَابُ جُمْلَةٌ أُخْرَى. وَإِنْ جُعِلَتْ "الم" بِمَنْزِلَةِ الصَّوْتِ، كَانَ ذَلِكَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ الْكِتَابُ، أَيْ: ذَلِكَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ هُوَ الْكِتَابُ الْكَامِلُ لا رَيْبَ لَا شَكَّ، وَهُوَ مَصْدَرُ رَابَنِي: إِذَا حَصَلَ فِيكَ (في نسخة فيه) الرِّيبَةُ وَحَقِيقَةُ الرِّيبَةِ: قَلَقُ النَّفْسِ وَاضْطِرَابُهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الشَّكَّ رِيبَةٌ، وَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ" (رواه التّرمذيّ والطّبرانيّ والحاكم) أَيْ: فَإِنَّ كَوْنَ الْأَمْرِ مَشْكُوكًا فِيهِ مِمَّا تَقْلُقُ لَهُ النَّفْسُ وَلَا تَسْتَقِرُّ، وَكَوْنُهُ صَحِيحًا صَادِقًا مِمَّا تَطْمَئِنُّ لَهُ وَتَسْكُنُ. وَمِنْهُ: رَيْبُ الزَّمَانِ، وَهُوَ: مَا يُقْلِقُ النُّفُوسَ، وَيشخَصُ بِالْقُلُوبِ مِنْ نَوَائِبِهِ. وَإِنَّمَا نَفَى الرَّيْبَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَقَدِ ارْتَابَ فِيهِ كَثِيرٌ (ليس المعنى لا أحد يرتاب في القرءان لأنه كثير من الكفار ارتابوا فيه وإنّما المعنى هذا الكتابُ مم حيثُ الإجمال لا يُرتابُ فيه)؛ لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ كَوْنُهُ مُتَعَلِّقًا لِلرَّيْبِ، وَمَظِنَّةً (ويجوز مَظَنّة بفتح الظّاء) لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وُضُوحِ الدِّلَالَةِ لَهُ وَسُطُوعِ الْبُرْهَانِ، بِحَيْثُ لَا يَنْبَغِي لِمُرْتَابٍ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، لَا أَنَّ أَحَدًا لَا يَرْتَابُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: لَا فِيهِ رَيْبٌ، كَمَا قَالَ: لا فِيهَا غَوْلٌ لأَنَّ الْمُرَادَ فِي إِيلَاءِ الرَّيْبِ حَرْفَ النَّفْيِ، نَفْيُ الرَّيْبِ عَنْهُ، وَإِثْبَاتُ أَنَّهُ حَقٌّ لَا بَاطِلٌ كَمَا يَزْعُمُ الْكُفَّارُ. وَلَوْ أولي الظَّرْفَ لَبَعُدَ عَنِ الْمُرَادِ، وَهُوَ أَنَّ كِتَابًا آخَرَ فِيهِ رَيْبٌ لَا فِيهِ، كَمَا قُصِدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لا فِيهَا غَوْلٌ تَفْضِيلُ خَمْرِ الْجَنَّةِ عَلَى خُمُورِ الدُّنْيَا بِأَنَّهَا لَا تَغْتَالُ الْعُقُولَ كَمَا تَغْتَالُهَا هِيَ. (هنا قُصِد أنّ خمرَ الجنّة ما فيها غولٌ أما خمرُ غيرِها فيها غول)
وَالْوَقْفُ عَلَى فِيهِ هُوَ الْمَشْهُورُ. وَعَنْ نَافِعٍ وَعَاصِمٍ أَنَّهُمَا وَقَفَا عَلَى لَا رَيْبَ، وَلَا بُدَّ لِلْوَاقِفِ مِنْ أَنْ يَنْوِيَ خَبَرًا، وَالتَّقْدِيرُ: لَا رَيْبَ فِيهِ فِيهِ هُدًى فِيهِ بِإِشْبَاعِ كُلِّ هَاءٍ، مَكِّيٌّ ابن أبي طالب. وَوَافَقَهُ حَفْصٌ فِي فِيهِ مُهَانًا و هُوَ الْأَصْلُ (الأصل الإشباعُ أي إشباعُ حرفِ العلّةِ) ، كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِهِ، وَمِنْ عِنْدِهِ، وَفِي دَارِهِ، وَكَمَا لَا يُقَالُ: فِي دَارِهِ، وَمِنْ عِنْدِهِ، وَجَبَ أَلَّا يُقَالَ: فِيهِ. وقَالَ سِيبَوَيْهِ: مَا قَالَهُ مُؤَدٍّ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ سَوَاكَنَ الْيَاءِ قَبْلَ الْهَاءِ وَالْهَاءِ إِذِ الْهَاءُ الْمُتَحَرِّكَةُ فِي كَلَامِهِمْ بِمَنْزِلَةِ السَّاكِنَةِ ؛ لِأَنَّ الْهَاءَ خَفِيَّةٌ وَالْخَفِيُّ قَرِيبٌ مِنَ السَّاكِنِ، وَالْيَاءُ بَعْدَهَا.
وَالْهُدَى مَصْدَرٌ عَلَى فُعَلٍ كَالْبُكَى وَهُوَ الدِّلَالَةُ الْمُوصِلَةُ إِلَى الْبُغْيَةِ، بِدَلِيلِ وُقُوعِ الضَّلَالَةِ فِي مُقَابَلَته فِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [الْبَقَرَةِ: 16]. وَإِنَّمَا قِيلَ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ وَالْمُتَّقُونَ مُهْتَدُونَ ؛ لِأَنَّهُ كَقَوْلِكَ لِلْعَزِيزِ الْمُكْرَمِ: أَعَزَّكَ اللَّهُ وَأَكْرَمَكَ، تُرِيدُ طَلَبَ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا هُوَ ثَابِتٌ فِيهِ وَاسْتَدَامَتَهُ، كَقَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (معناه زدنا هدىً وثبّتنا) وَلِأَنَّهُ سَمَّاهُمْ عِنْدَ مُشَارِفَتِهِمْ لِاكْتِسَاءِ لِبَاسِ التَّقْوَى مُتَّقِينَ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ" (متفق عليه) (قتيلًا يؤول إلى القتلِ ليس معناع الشّخص الّذي هو قتيلٌ حقّا لأن القتيلَ حقًّا لا يُقتل، إنّما يُقتل الحيّ) وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمُ الْحَجَّ فَلْيُعَجِّلْ فَإِنَّهُ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ. (رواه أبو داود) فَسُمِّيَ الْمُشَارِفُ لِلْقَتْلِ وَالْمَرَضِ قَتِيلًا وَمَرِيضًا. وَلَمْ يَقُلْ: هُدًى لِلضَّالِّينَ ؛ لِأَنَّهُمْ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ عَلِمَ بَقَاءَهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ، وَفَرِيقٌ عَلِمَ أَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى الْهُدَى، وَهُوَ هُدًى لِهَؤُلَاءِ فَحَسْبُ (كهذا الفريق الكافر الذي سَبق في علم اللّهِ أنّه يهتدي القراءن هدىً لأنّهم يقبلونه، ليس الذين علِم اللهُ بقاءَهم أي موتَهم على الكفرِ) فَلَوْ جِيءَ بِالْعِبَارَةِ الْمُفْصِحَةِ عَنْ ذَلِكَ لَقِيلَ: هُدًى لِلصَّائِرِينَ إِلَى الْهُدَى بَعْدَ الضَّلَالِ، فَاخْتُصِر الْكَلَامُ بِإِجْرَائِهِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَقِيلَ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ مَعَ أَنَّ فِيهِ تَصْدِيرًا لِلسُّورَةِ ؛ الَّتِي هِيَ أُولَى الزَّهْرَاوَيْنِ، وَسَنَامُ الْقُرْآنِ ؛ بِذِكْرِ أَوْلِيَاء اللهِ. (أي صُدِّرَ بذكر أولياءِ اللهِ)
وَالْمُتَّقِي فِي اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ: وَقَاهُ فَاتَّقَى، فَفَاؤُهَا وَاوٌ وَلَامُهَا يَاءٌ، وَإِذَا بَنَيْتَ مِنْ ذَلِكَ افْتَعَلَ قَلَبْتَ الْوَاوَ تَاءً، وَأَدْغَمْتَهَا فِي التَّاءِ الْأُخْرَى، فَقُلْتَ: اتَّقَى، وَالْوِقَايَةُ: فَرْطُ الصِّيَانَةِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: مَنْ يَقِي نَفْسَهُ تَعَاطِيَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ. وَمَحَلُّ هُدًى الرَّفْعُ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ خَبَرٌ مَعَ لَا رَيْبَ فِيهِ لِذَلِكَ، أَوِ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ فِي "فِيهِ". وَالَّذِي هُوَ أَرْسَخُ عُرفًا فِي الْبَلَاغَةِ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: الم جُمْلَةٌ بِرَأْسِهَا، أَوْ طَائِفَةٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا، وَ ذَلِكَ الْكِتَابُ جُمْلَةٌ ثَانِيَةٌ وَ لا رَيْبَ فِيهِ ثَالِثَةٌ وَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ رَابِعَةٌ. (وهذا أوفقُ للبلاغةِ)
وَقَدْ أُصِيبَ بِتَرْتِيبِهَا مِفصَل (وفي نسخة مَفصِل) الْبَلَاغَةِ، حَيْثُ جِيءَ بِهَا مُتَنَاسِقَةً هَكَذَا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ عَطْفٍ، وَذَلِكَ لِمَجِيئِهَا مُتَآخِيَةً آخِذًا بَعْضُهَا بِعُنُقِ بَعْضٍ، فَالثَّانِيَةُ مُتَّحِدَةٌ بِالْأُولَى مُعْتَنِقَةٌ لَهَا وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ. بَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ نَبَّهَ أَوَّلًا عَلَى أَنَّهُ الْكَلَامُ الْمُتَحَدَّى بِهِ، ثُمَّ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ الْكِتَابُ الْمَنْعُوتُ بِغَايَةِ الْكَمَالِ، فَكَانَ تَقْرِيرًا لجِهَةِ التَّحَدِّي، ثُمَّ نَفَى عَنْهُ أَنْ يَتَشَبَّث (وفي نسخة تنشبه) بِهِ طَرَفٌ مِنَ الرَّيْبِ، فَكَانَ شَهَادَةً وَتَسْجِيلًا بِكَمَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا كَمَالَ أَكْمَلُ مِمَّا لِلْحَقِّ وَالْيَقِينِ، وَلَا نَقْصَ أَنْقَصُ مِمَّا لِلْبَاطِلِ وَالشُّبْهَةِ. وَقِيلَ لِعَالِمٍ: فِيمَ لَذَّتُكَ ؟ قَالَ: فِي حُجَّةٍ تَتَبَخْتَرُ اتِّضَاحًا، وَفَى شُبْهَةٍ تَتَضَاءَلُ افْتِضَاحًا.
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ فَقَرَّرَ بِذَلِكَ كَوْنَهُ يَقِينًا لَا يَحُومُ الشَّكُّ حَوْلَهُ وَحَقًّا لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ثُمَّ لَمْ تَخْلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأَرْبَعِ بَعْدَ أَنْ رُتِّبَتْ هَذَا التَّرْتِيبَ الْأَنِيقَ، وَنُظِمَتْ هَذَا النَّظْمَ الرَّشِيقَ مِنْ نُكْتَةٍ ذَاتِ جَزَالَةٍ. فَفِي الْأَوْلَى الْحَذْفُ وَالرَّمْزُ إِلَى الْمَطْلُوبِ بِأَلْطَفِ وَجْهٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ مَا فِي التَّعْرِيفِ مِنَ الْفَخَامَةِ، وَفِي الثَّالِثَةِ مَا فِي تَقْدِيمِ الرَّيْبِ عَلَى الظَّرْفِ، وَفِي الرَّابِعَةِ الْحَذْفُ، وَوضِعَ الْمَصْدَر، الَّذِي هُوَ هُدًى، مَوْضِعَ الْوَصْفِ، الَّذِي هُوَ هَادٍ، كَأَنَّ نَفْسَهُ هِدَايَةً، وَإِيرَادُهُ مُنَكَّرًا، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ هُدًى لَا يُكْتَنَهُ كُنْهُهُ، وَالْإِيجَازُ فِي ذِكْرِ الْمُتَّقِينَ كَمَا مَرَّ.
https://www.islam.ms/ar/?p=891