تفسير سورة البقرة آية 163 - 164 - 165 - 166

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:

{ وَإِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَاحِدٌ } [البقرة : 163] فَرْدٌ في أُلُوهِيَّتِهِ لا شَرِيكَ لهُ فِيهَا ولا يَصِحُّ أنْ يُسَمَّى غَيرُه إلهًا

{ لا إِلَـهَ إِلا هُوَ } تَقرِيرٌ لِلوَحْدَانِيّةِ يَنفِي إثْبَاتَ أُلُوهِيّةِ غَيرِه.

ورَفْعُ (الرَّحمَنُ الرَّحِيمُ) أي الْمَولَى لِجَمِيعِ النِّعَم أُصُولِها وفُرُوعِها ولا شَيءَ سِوَاهُ بهَذِه الصّفَةِ، فمَا سِوَاهُ إمّا نِعمَةٌ وإمّا مُنعَمٌ علَيهِ

ولَمّا عَجِبَ المشرِكُونَ مِن إلَهٍ واحِدٍ وطَلَبُوا آيةً على ذَلكَ نَزَلَ

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَافِ اللّيْلِ وَالنَّهَارِ } في اللَّونِ والطُّولِ والقِصَرِ وتَعاقُبِهِما في الذَّهَابِ والمجِيْء

{ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِي فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ } بالذي يَنفَعُهُم مِما يُحمَلُ فيها، أو بنَفْعِ النّاسِ،

{ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ } مَطَرٍ لِبَيَانِ الجِنْسِ، لأنّ مَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَطَرٌ وغَيرُه.

{ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } فأَحْيَا الأرضَ بالماءِ بَعدَ يُبسِهَا

{ وَبَثَّ فِيهَآ } وفَرَّقَ في الأرضِ

{ مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } هِيَ كُلُّ مَا يَدِبُّ

{ وَتَصْرِيفِ الرِّيَـاحِ } أيْ وتَقلِيبِها في مهَابّها قَبُولًا ودَبُورًا وجَنُوبًا وشَمالًا ، وفي أحْوَالِها حَارّةً وبَارِدَةً وعَاصِفَةً ولَيّنَةً وعُقْمًا ولَواقِحَ.

وقِيلَ : تَارَةً بالرَّحمَةِ وطَورًا بالعَذَابِ.

{ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ } الْمُذَلَّلِ الْمُنقَادِ لِمَشِيئَةِ اللهِ تَعالى فيُمطِرُ حَيثُ شَاءَ

{ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأرْضِ } في الهواءِ

{ لآيَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة : 164] يَنظُرُونَ بِعُيُونِ عُقُولِهم ويَعتَبِرُونَ فيَستَدِلُّونَ بهَذه الأشيَاءِ على قُدرَةِ مُوجِدِهَا وحِكمَةِ مُبدِعِهَا ووَحدَانيّةِ مُنشِئِها.

وفي الحَديثِ "وَيلٌ لِمَنْ قَرَأ هَذِه الآيةَ ولم يَتَفَكَّرْ فِيهَا" رواه ابن حبان أيْ لَم يَتفَكَّر فِيهَا ولم يَعتَبِرْ بِها. (ذَمٌّ لِمَنْ لَم يَتفَكَّرْ بالْمَرَّة. وليسَ مَعنَاهُ أنّهُ كُلّمَا قَرأَ الشَّخصُ الآيةَ يجِبُ علَيهِ أنْ يتَفكَّرَ، الحَرَامُ هوَ مَن لم يتَفَكَّرْ بالْمَرَّة.)

(القَلبُ يَنفَعُ صَاحِبَهُ إذَا اسْتَعمَلَهُ الإنسَانُ فِيمَا أُمِرَ بهِ، فَإذَا الإِنسَانُ تَفكَّرَ في خَلقِ السّماواتِ والأرض وخَلْقِ نَفسِه فَاسْتَشعَرَ بتَعظِيم اللهِ تَعالى يَكُونُ لهُ أَجرٌ كَبِيرٌ بهذا الاستِشعَارِ، التَّفَكُّر فَرضٌ، سيّدُنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم قَرَأ هَذه الآيةَ التي في سُورَةِ آلِ عِمْران: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ والنَّهارِ لآياتٍ لأُولِي الألْبَابِ الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا} قال بعدما قرأ الآية: " ويْلٌ لمن قرأها ولم يتفكّر فيها " رواه ابن حبان. فمِنْ هُنَا نَعلَمُ أنّ على الإِنسَانِ أنْ يتَفَكَّر أي يَنظُرَ في أحوَالِ العَالَم في حَالِ نَفْسِه وفي حَالِ هَذَا الجَوّ حتّى يَزدَادَ يَقِينًا بوجُودِ اللهِ الذي خَلَقَ هَذه الأشياءَ كُلَّها، لأنّ الإِنسَانَ إذَا فَكَّر في أَمْرِ نَفسِه في حَالِ نَفْسِه يَعرِفُ أنّهُ وُجِدَ بَعدَ أنْ لم يَكُن مَوجُودًا يَعلَمُ أنّهُ لم يَخلُقْ نَفسَه، كذَلكَ حَالُ الأبِ كذَلكَ حَالُ الأمّ كذلكَ حَالُ الجَدِّ كذَلكَ مَنْ فَوقَهُم كُلُّ هَؤلاءِ يَعلَمُونَ أنّهم مَا خَلَقُوا أَنفُسَهُم بل خلَقَهُم مَوجُودٌ وهَذا الموجُودُ لا يجُوزُ أن يكونَ شَبِيهًا لهذا البَشَرِ ولا شَبِيهًا لهذه الأشياءِ الأُخرَى، فَإذَا فَكَّر في ذلكَ فَاهتَدَى لمعرفةِ كَمالِ قُدرَةِ خَالِقِه وخَالقِ هَذه الأشياءِ يَكُونُ لهُ بهذا التّفكِيرِ ثَوابٌ عَظِيمٌ، هَذَا مِن جُملَةِ واجِبَاتِ القَلْبِ، ثم مِن جُملَةِ واجِبَاتِ الفؤادِ مَعرِفَةُ اللهِ لأنّ المعرفةَ محَلُّها القَلبُ ومَعرفَةُ رَسُولِه ومَعرفةُ ما فَرضَ الله، الفؤادُ هو محَلُّ المعرفةِ وهَذه المعرفةُ فرَضَهَا اللهُ علَينَا)

{ومِنَ النّاس} أي ومَع هَذا البُرهَانِ النَّيّرِ مِنَ النّاسِ

{مَن يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَادًا} أَمْثَالًا مِنَ الأصنَامِ

{يُحِبُّونَهُمْ} يُعَظِّمُونَهم ويَخضَعُونَ لَهم تَعظِيمَ الْمَحبُوبِ

{كَحُبِّ اللَّهِ} كتَعظِيمِ اللهِ والخُضُوعِ لهُ، أي يُحِبُّونَ الأصنَامَ كمَا يُحِبُّونَ اللهَ يَعني يُسَوُّونَ بَينَهُم وبَينَهُ في محَبَّتِهم لأنّهم كانوا يُقِرُّونَ باللهِ ويتَقَرَّبُونَ إلَيهِ بِزَعْمِهِم.

وقِيلَ : يُحِبُّونَهم كحُبِّ المؤمنِينَ اللهَ

{ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ } مِنَ الْمُشرِكِينَ لآلِهَتِهم لأَنَّهم لا يَعْدِلُونَ عَنهُ إلى غَيرِه بحَالٍ ، والمشركُونَ يَعدِلُونَ عَن أَنْدَادِهِم إلى اللهِ عِندَ الشَّدَائِدِ فيَفزَعُونَ إلَيهِ ويَخضَعُونَ

{ وَلَوْ يَرَى } أيْ ولَو تَرَى ذلكَ لَرَأَيتَ أَمرًا عَظِيمًا.

{ الَّذِينَ ظَلَمُوا } إشَارَةٌ إلى مُتَّخِذِي الأَنْدَادِ

{ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا }

{ وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } [البقرة : 165] شَدِيدٌ عَذَابُه أيْ ولَو يَعلَمُ هَؤلاءِ الذينَ ارْتَكَبُوا الظُّلْمَ العَظِيمَ بِشِرْكِهِم أنَّ القُدرَةَ كُلَّها للهِ تَعَالى على كُلِّ شَيءٍ مِنَ الثَّوابِ والعِقَابِ دُونَ أَنْدَادِهم ، ويَعلَمُونَ شِدَّةَ عِقَابِه للظّالِمينَ إذَا عَايَنُوا العَذَابَ يَومَ القِيَامَةِ لَكَانَ مِنهُم مَا لا يَدخُلُ تَحتَ الوَصْفِ مِنَ النَّدَمِ والحَسْرَة ،

{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا } أيِ الْمُتَّبَعُونَ وهُمُ الرُّؤسَاءُ

{ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } مِنَ الأَتْبَاعِ

{ وَرَأَوُا الْعَذَابَ } أيْ تَبرَّأُوا في حَالِ رُؤيَتِهِمُ العَذابَ

{ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاسْبَابُ } [البقرة : 166] الوُصَلُ التي كَانَت بَينَهُم مِنَ الاتّفَاقِ على دِينٍ واحِدٍ ومِنَ الأَنْسَابِ والْمَحَابّ.

سني أهل السنة دروس دينية إسلامية ثقافة إسلامية تفسير قرآن تفسير سورة البقرة تفسير النسفي